لم تمض سوى نحو أربعة أسابيع على توصل الخرطوم وجوبا إلى تفاهمات تاريخية وصفت بأنها اختراقات في ملفات صناعة النفط والتجارة والنقل، حتى أطلت الإغلاقات المتتالية التي تشهدها منشآت حيوية وأنابيب النفط في مناطق الشرق السوداني، ما يهدد بنسف التفاهمات التي أبرمها السودان مع دولة الجنوب، حال استمرارها، ويضع البلدان في مأزق كبير يفاقم من الأزمات الاقتصادية والمعيشية فيهما ويدخلهما في دوائر أعمق من الصراع.
ووقع السودان ودولة جنوب السودان نهاية أغسطس/ آب الماضي على مسودة تطوير التعاون النفطي بين البلدين، خلال زيارة وفد حكومي سوداني إلى جوبا برئاسة عبد الله حمدوك رئيس الوزراء، ما يسمح بزيادة الإنتاج في حقول جنوب السودان وزيادة التصدير.
لكن إقدام محتجين في مدينة بورتسودان على إغلاق خطي تصدير واستيراد النفط، بهدف الضغط على الحكومة الانتقالية في الخرطوم، احتجاجاً على تهميش مناطق الشرق، وجّه ضربة غير مباشرة إلى جوبا، وذلك بحبس صادراتها التي كانت تتدفق إلى العالم الخارجي بشكل رئيسي عبر المرور بالأراضي السودانية.
أفقد انفصال جنوب السودان الخرطوم ثلاثة أرباع مواردها النفطية، تعادل 80% من احتياطيات النقد الأجنبي، و50% من الإيرادات العامة
ويمتد الأنبوب الناقل لنفط دولة جنوب السودان من العاصمة جوبا حتى ميناء بورتسودان بغرض التصدير، كما يستفيد السودان منه عبر تحصيل رسوم على عبوره، فضلاً عن الحصول على إمدادات منه.
ولطالما مر ملف النفط بين السودان ودولة الجنوب بالكثير من الأزمات منذ انفصال جنوب السودان عن السودان في 2011، بينما كانت الأنظار تتجه في السنوات الأخيرة نحو تجنيب هذا الملف الحيوي المشاكل بين الدولتين، إذ أقرّ المسؤولون في كلتيهما بأنه لا غنى عنه في الخروج من الكثير من الصعوبات الاقتصادية والمالية التي تعمّقت في كل من جوبا والخرطوم وتفاقمت على أثرها معدلات الفقر وانحدار مستويات المعيشة.
فالسودان يعاني من تراجع الموارد المالية وهبوط حاد لعملته الوطنية أمام الدولار، ما تسبب في ارتفاع غير مسبوق لمعدلات التضخم التي كسرت حاجز 422% في يوليو/ تموز الماضي، كما تأثرت جنوب السودان بواقع مؤلم خلال فترات غلق السودان صنابير تصدير نفط الجنوب، ما جعل الدولة الوليدة غير قادرة على دفع رواتب العاملين لفترات طويلة، وزادت حدة الفقر لتصل إلى أكثر من 80% وفق البيانات الرسمية، بينما تكلف جوبا أعباء متزايدة جراء البحث عن مسالك بديلة لتصدير النفط.
يقول وزير النفط السوداني الأسبق، عادل إبراهيم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "إغلاق أنابيب النفط في بورتسودان سيؤدي إلى حرمان دولة الجنوب من صادراتها النفطية، ويخلّ بالتزاماتها مع المشترين في الخارج وسيعرضنا في دولة السودان لمسؤولية وغرامات دولية جراء إخلالنا بالتزامنا أيضاً بتوصيل نفط الجنوب للأسواق الدولية دون تأخير، فضلاً عن تسبب ذلك في خنق اقتصاد الجنوب".
ويضيف إبراهيم أن مصفاة النفط الرئيسة في الخرطوم ستتعرض لأزمة كبيرة أيضاً، ما يهدد بأزمة مشتقات نفطية وغاز طهي في عموم البلاد، داعياً "الجهات السياسية والحكومية والعسكرية لحل هذه المشاكل بشكل عاجل".
ووصل وفد حكومي سوداني، أمس الأحد، إلى مدينة بورتسودان، وفق بيان صادر عن مجلس السيادة الانتقالي، قال إن الزيارة "التي تستمر يومين، تأتي في إطار مبادرة لحل الأزمة التي نشبت مؤخراً في شرق البلاد على خلفية حراك جماهيري مطلبي قاده المجلس الأعلى لنظارات البجا، وأغلقت على أثره عدد من المرافق الحيوية، مما أدى إلى تداعيات سلبية على مجمل الأوضاع الاقتصادية بالبلاد".
وإلى جانب غلق خطي تصدير واستيراد النفط يغلق مجلس قبلي شرقي السودان منذ 10 أيام كل الموانئ على البحر الأحمر والطريق الرئيسي بين الخرطوم وبورتسودان.
وكان المجلس القبلي قد أغلق في 5 يوليو/ تموز الماضي الطريق القومي بين الخرطوم وبورتسودان لمدة 3 أيام، قبل إرسال الحكومة وفداً وزارياً في 17 من الشهر ذاته للتفاوض معهم حول مطالبهم، لكن من دون الاستجابة لها، بحسب تصريحات لقيادات المجلس.
ويحتج المجلس القبلي على "التهميش السياسي والاقتصادي"، إذ وقعت الحكومة الانتقالية السودانية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي اتفاق سلام في مدينة جوبا مع عدد من الحركات التي حملت السلاح في عهد الرئيس السابق عمر البشير.
وبعد توقيع الاتفاق، قامت قبائل البجا في شرق البلاد بالاحتجاج وإغلاق ميناء بورتسودان عدة أيام اعتراضاً على عدم تمثيلها في الاتفاق. ويضم شرق السودان ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف، وهو من أفقر مناطق البلاد.
ويقول المختص في قطاع النفط السوداني، عبد الوهاب جمعة، إنه بالرغم من انفصال الجنوب عن السودان في 2011، إلا أن النفط لا يزال يحكم الكثير من العلاقات بين البلدين، وأي تداعيات تؤثر عليهما، مشيراً إلى أن جنوب السودان يحوي الكثير من حقول المنبع، والسودان يملك منشآت المعالجة والنقل والتصدير.
هوى إنتاج السودان من النفط بعد انفصال الجنوب من 450 ألف برميل يومياً في 2011 إلى ما بين 60 و70ألف برميل يومياً حالياً، مما جعل الحكومة تلجأ إلى استيراد أكثر من 60% من المواد البترولية
ولطالما كان النفط محط جولات عدة من المفاوضات بين البلدين منذ نحو ثماني سنوات. ففي 2019، أعلنت الخرطوم استئناف ضخ نفط دولة جنوب السودان عبر أراضيها بعد توقف استمر خمس سنوات، بغرض التصدير من حقل "توما ساوث" بولاية الوحدة في دولة جنوب السودان، بإنتاج يومي يبلغ 20 ألف برميل.
وفي 2013، وقّع السودان وجارته الجنوبية، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تسع اتفاقيات، بينها اتفاقية تتضمن الترتيبات المالية الانتقالية التي تشمل رسوم عبور وتصدير نفط جنوب السودان عبر الأراضي السودانية.
ووفق جمعة: "لا يتوقف التعاون بين السودان وجنوب السودان بمجرد معالجة ونقل خام نفط جنوب السودان وإنما يتعداه إلى مساعدة السودان دولة جنوب السودان على زيادة الإنتاج النفطي بحقوله"، كما تعتمد ثاني اكبر منشأة سودانية لتوليد الكهرباء في السودان على خام نفط جنوب السودان وهي محطة كوستي الحرارية بسعة 500 ميغاواط.
وتعمل عدة شركات سودانية في زيادة إنتاج نفط جنوب السودان، من بينها "تو بي أوبكو" السودانية حيث تعمل مع حكومة جنوب السودان لاستعادة إنتاج النفط في حقول الوحدة التابعة لجنوب السودان التي توقفت نتيجة صراع فرقاء جنوب السودان.
وكان ملف المورد الناضب إحدى أبرز نقاط الخلاف بين السودان ودولة الجنوب، كون الحقول الرئيسية تقع على طول الحدود الممتدة بينهما بحوالي ألفي كيلومتر، إذ أفقد انفصال جنوب السودان الخرطوم ثلاثة أرباع مواردها النفطية، تعادل 80% من احتياطيات النقد الأجنبي، و50% من الإيرادات العامة.
ووفق البيانات الرسمية فقد هوى إنتاج السودان من 450 ألف برميل يومياً في 2011 إلى ما بين 60 و70ألف برميل يومياً حالياً، مما جعل الحكومة تلجأ إلى استيراد أكثر من 60% من المواد البترولية.
ويقول الخبير الاقتصادي أدم الزين إن المشكلة تعود إلى ضعف الاستثمارات الأجنبية في قطاع استكشاف وإنتاج النفط، والسبب الأبرز لذلك هو زيادة ديون الشركات الاجنبية على الحكومة السودانية، كما لم تجر الحكومة الانتقالية أي معالجات مع تلك الشركات، وهو ما دفع شركات عالمية تعود إلى الصين وماليزيا والهند.
ووفق بيان صادر عن وزير الطاقة والنفط في الحكومة الانتقالية السودانية، السبت الماضي، فإن مخزون النفط في السودان "لا يكفي حاجة البلاد سوى نحو 10 أيام فقط"، مشيراً إلى أن غلق خطي النفط في بورتسودان أدى إلى تخزينه في المستودعات الرئيسية بميناء بشائر، وهذا لن يستمر أكثر من عشرة أيام، بعدها ستمتلئ المستودعات بالخام، وبالتالي الخط الناقل، ما يجعله عرضه للتجمد والتلف، إضافة إلى إيقاف الإنتاج في حقول دولة جنوب السودان، وفقدان السودان عائدات النقل السنوي من الخط وقدرها 300 مليون دولار سنوياً، وكذلك غرامات تأخير بواخر الشحن التي تفوق 25 ألف دولار في اليوم. وأعرب عن أمله في أن يتم الوصول إلى رفع حالة الإغلاق الراهن خلال مدة أقصاها أسبوع من اليوم، لتفادي كل هذه الخسائر والأضرار.
وكانت شركة خطوط نقل خام النفط التابعة لوزارة الطاقة والنفط السودانية قد أعلنت، أمس، عن خسائر فادحة، نتيجة توقف نحو 100 ألف برميل يومياً، من إنتاج نفط دولة جنوب السودان بسبب إغلاق بورتسودان.