طُويت عمليات البحث عن ناجين من زلزالي تركيا المدمرين اللذين وقعا في السادس من فبراير/ شباط الجاري، وما أعقبهما من ارتدادات تتجاوز 3500 هزة، لتبدأ مرحلة رفع الأنقاض وإعادة البناء التي قد لا تكون يسيرة، في ظل تحديات تتعلق بالاحتياج إلى كميات كبيرة من مواد البناء في وقت قياسي لإعادة تسكين 1.2 مليون أسرة مشردة، بينما تواجه الصناعات الرئيسية، لا سيما الصلب، عقبات تشغيلية، ما يدفع البلد إلى التوجه نحو استيراد مواد البناء، في وقت تشهد فيه الأسعار العالمية زيادات بفعل الطلب المتنامي في الآونة الأخيرة.
وتظهر الأرقام الرسمية تدمير 264 ألف وحدة سكنية في الولايات العشر المنكوبة جنوبي البلاد. فيما تعهدت الحكومة التركية بإعادة العقارات المنهارة خلال عام واحد، حتى لا يطول مكوث المتضررين في مخيمات ومساكن مؤقتة، قدرها الرئيس رجب طيب أردوغان قبل يومين بنحو 175 ألف خيمة و5400 مسكن مسبقة الصنع والتجهيز، فضلاً عن آلاف المنازل المتنقلة التي قدمتها دول مثل قطر كمساعدات لإيواء المتضررين.
قبل أيام قدر اتحاد الشركات والأعمال في تركيا خسائر الدمار الذي لحق بالمباني السكنية بحوالي 70.8 مليار دولار، ما يجعل تكاليف إعادة البناء في وقت قريب تحتاج إلى رافعات مالية كبيرة ما يزيد من الضغوط على ميزانية الدولة في أوقات عصيبة.
يقول أور أويان، مدير شركة "ميروسا" للإنشاءات الدولية والاستثمار العقاري، إن "الوعود الحكومية بالبناء والتسليم خلال عام ستزيد حتماً من التكاليف، نتيجة زيادة الطلب على مواد البناء والعمالة". لكن أويان يرى أنه قد لا تكون هناك قفزات سعرية بعد أن عهدت الدولة إلى شركة "توكي" الحكومية بإعادة بناء 30 ألف مسكن.
ويشير أويان في تصريحات لـ"العربي الجديد" إلى أن "مباني شركة "توكي في الولايات المنكوبة والبالغة نحو 22620 مسكناً لم يتضرر أو ينهدم أي مبنى منها، ما يزيد الثقة في الشركة الحكومية التي ستتعاقد مع الشركات الإنشائية والمتخصصة في تركيا والتي تزيد عن 25 ألف شركة، بينما قد تتطلب الحاجة والسرعة في التنفيذ التعاقد مع شركات خارجية".
بدوره، يرى الخبير في القطاع العقاري أحمد الناعس، أنه من المبكر تقدير تكاليف إعادة إعمار ما دمره الزلزال، لأن عدد المباني المتصدعة أو غير الآمنة بالولايات المنكوبة، لم يحدد بشكل نهائي بعد، الأمر الذي يرشح عدد المباني التي ستهدم للزيادة، وبالتالي زيادة تكاليف الإعمار.
ويقول الناعس إن أجور العمالة، نتيجة كثرة الأبنية وضرورة سرعة الإنجاز، سترتفع حتما، لا سيما في ظل زيادة الطلب المتوقع على العمالة، فضلاً عن ارتفاع تكاليف المعيشة في البلد.
وبينما سيكون هناك طلب متزايد على عمالة البناء في الولايات المنكوبة فإن عشرات الآلاف منهم غادر بالفعل هذه الولايات إلى ولايات أخرى للإيواء، تبعد لمسافات طويلة في حالات كثيرة، ما يرفع كلف انتقالهم إلى مواقع العمل مجدداً.
كما أن الكثير من مصانع مواد البناء التي يقع معظمها في الولايات المنكوبة جنوبي البلاد، لا تزال تعاني من صعوبات تشغيلية، في ظل تضررها من الزلزال، وتعثر حركة النقل، فضلاً عن عودة الكوادر العمالية إلى كامل طاقتها، ما يجعل أسعار مواد البناء مرشحة للارتفاع لتضاف إلى تحديات إعادة الإعمار.
ويتخوف أتراك بالفعل من استغلال الشركات المنتجة لمواد البناء والصلب خاصة، زيادة الطلب ورفع الأسعار، الأمر الذي سيزيد من تكاليف البناء، وربما تأخير فترة تسليم الوحدات السكنية للمتضررين.
لكن الخبير الاقتصادي التركي مسلم أويصال يقول لـ"العربي الجديد" إن الحكومة "ستتعامل بضبط وحزم" مع أي استغلال للكارثة التي ألمت بالبلاد، مشيراً إلى أن هناك قراراً بأولوية البيع للحكومة، سواء الحديد أو الإسمنت أو بقية مواد البناء.
ويلفت أويصال إلى أنه ستجري كذلك مضاعفة الإنتاج في المنشآت المتخصصة بمواد البناء والمفروشات بعموم تركيا، مضيفاً: "سنرى نهضة إنتاجية، ورب ضارة نافعة، لأن قطاع البناء محرّض لأكثر من 200 صناعة، وجميعها متوفرة في تركيا، ومنشآتنا رائدة على المستوى العالمي في هذا المجال".
ويبلغ إنتاج تركيا من حديد التسليح (المخصص للبناء) 52 مليون طن سنوياً، ويحتل البلد الترتيب السابع عالمياً بحصة تصل إلى 17% من الإنتاج العالمي. بينما يبلغ إنتاج الإسمنت حوالي 175 مليون طن سنوياً، وتعد تركيا الأولى أوروبياً والخامسة عالمياً بحصة تصل إلى 23% من الإنتاج العالمي، وفق البيانات الرسمية.
ورغم وعود مسؤولين بإحكام الرقابة على أسواق مواد البناء وأسعارها، فإنها شهدت بالفعل تحركات صعودية في الأيام الأخيرة، وفق مدير شركة "ميروسا" للإنشاءات، أور أويان، الذي لفت إلى ارتفاع سعر الحديد والإسمنت بنحو 10% خلال الفترة الأخيرة.
لكن أويان يؤكد أنه يمكن زيادة الاعتماد على الحديد المستورد، خاصة من روسيا وأوكرانيا، الأقل سعراً من الحديد المحلي الذي يصل إلى نحو 800 دولار للطن.
ويضيف أن توقف كبرى معامل إنتاج الحديد والصلب في المناطق المنكوبة "لن يطول، كما أن كبرى منشآت الحديد والصلب تقع خارج الولايات المنكوبة، لا سيما في ولايات إزميت وإسطنبول وزونغولداغ وكارابوك".
غير أن الرهان على استيراد حديد التسليح اللازم للبناء من روسيا وأوكرانيا قد يتأثر سعرياً أيضاً بمستويات الطلب العالمية التي تشهد تنامياً في الآونة الأخيرة ما يقود الأسعار للصعود، خاصة بعد أن تعرضت العديد من المصانع الأوروبية لمشاكل إنتاجية، بسبب أزمة الطاقة العام الماضي.
فقد شهد إنتاج الصلب الأوروبي انخفاضات كبيرة خلال 2022، حيث أوقفت شركة Liberty Steel UK ثلاثة مصانع، وانخفض إنتاج الصلب الخام في الاتحاد الأوروبي بنسبة 10.1% على أساس سنوي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ما أدى إلى زيادة الأسعار، وفق نشرة أويل برايس الأميركية المتخصصة في الطاقة.
وحتى مع عودة المصانع المتوقفة للعمل للاستفادة من صعود الأسعار، فإن ذلك قد يلبي احتياجات تركيا من مواد البناء لكن بكلف متزايدة. وأدى ارتفاع الأسعار، وانخفاض المخزونات، وتحسّن الطلب، إلى دفع بعض مصنعي الصلب إلى زيادة الإنتاج، ففي أوائل يناير/ كانون الثاني الماضي، أعادت شركة الصلب الأميركية كوسيتشي تشغيل الفرن العالي الذي كان متوقفاً في مصنعها في سلوفاكيا منذ سبتمبر/أيلول الماضي.
كما بدأت شركة "أرسيلور ميتال" ArcelorMittal ، التي شهدت انخفاضاً بنسبة 20% في إجمالي سعة أفران الصهر في أوروبا خلال الربع الأخير من العام الماضي، في إعادة السعة إلى سابق عهدها. وشمل ذلك عودة الأفران العالية في بولندا وفرنسا وإسبانيا.
في الأثناء، يتخوف محللون اقتصاديون أتراك من "ثقل الحمل" على ميزانية الدولة، وتكاليف إعادة الإعمار، وتعويض المتضررين وذوي المتوفين، ما يؤثر على نسبة النمو، ويؤخر دخول تركيا قائمة الدول العشر الكبار العام الجاري.
ويقول الخبير الاقتصادي، يوسف كاتب أوغلو، إن "الحمل ثقيل بلا شك، لكن هناك أيضاً استجابة شعبية كبيرة"، مشيراً إلى الحملة الشعبية التي أعلنت ليوم واحد مؤخراً، ووفرت حوالي 6.1 مليارات دولار.
هذه التبرعات، إضافة إلى المساعدات الخارجية، ستساعد في تخفيف أعباء تكاليف إعادة البناء، والمضي في الإعمار الذي قد يؤخر عمليات تسليم المساكن للمتضررين لعام إضافي، وفق أوغلو، لافتاً إلى أن عدد المباني التي تحتاج إلى إعادة إعمار قد يزيد بعد نتائج رصد فرق الهندسة لكل المباني المتصدعة أو حتى غير المقاومة للزلزال، "إذ جرى تقييم أكثر من 70% من المباني في الولايات المنكوبة وتقرر هدم 40% من المباني المتضررة".