إشكاليات التصحيح الضريبي في لبنان

27 ديسمبر 2022
انفلات سعر الدولار يربك الحسابات الحكومية (فرانس برس)
+ الخط -

منذ بدايات الانهيار المالي اللبناني في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ولغاية اليوم، ارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة في السوق الموازية من 1507.5 ليرات للدولار، إلى مستويات تتجاوز 46 ألف ليرة مقابل الدولار. مع ذلك، ظلّت المؤسسات التجارية تسدد الرسوم الجمركيّة بالليرة، بعد احتسابها وفقاً لسعر الصرف القديم المنخفض، الذي لا تتجاوز قيمته 4% من سعر الصرف الفعلي حاليّاً في السوق. كما ظلّت الغالبيّة الساحقة من أصحاب الرواتب والأرباح المقوّمة بالدولار تصرّح عن مداخيلها وتسدد الضرائب وفق هذا السعر أيضاً.

في واقع الأمر، لم تقتصر المسألة على ضريبة الدخل أو الرسم الجمركي، بل اعتمِد سعر الصرف المنخفض هذا لسداد معظم الرسوم والضرائب التي تتأثّر بقيمة الدولار مقابل الليرة، على مدى السنوات الثلاث الماضية.

فبغياب قانون جديد يحدد آليّة لاحتساب سعر الصرف العائم لليرة، ومع انفلات سعر السوق الموازية، اعتمِد سعر الصرف القديم بوصفه السعر الرسمي المكرّس كأمر واقع منذ التسعينيات. وكما هو واضح، امتلك المكلّفون بالضريبة المصلحة في اعتماد هذا السعر للتصريح عن التزاماتهم، لتخفيض هذه الالتزامات بنسبة كبيرة.

ولذلك، تحوّلت تعدديّة وفوضى أسعار الصرف إلى سبب من أسباب تشوّه الإجراءات الضريبيّة في البلاد. فمن ناحية، أدّت هذه المسألة إلى حرمان الدولة من نسبة كبيرة من العائدات التي تستحق لصالحها، نتيجة الفارق الضخم بين القيمة الفعليّة للمداخيل أو السلع بالعملات الأجنبيّة، وقيمتها عند تقديرها بالعملة المحليّة بحسب سعر الصرف الرسمي القديم، لسداد الضرائب. ومع كلّ تدهور إضافي في سعر صرف الليرة الحقيقي في السوق، كان الفارق بين القيمتين يتوسّع.

لهذا السبب بالتحديد، لم تكن مداخيل الدولة من الضرائب والرسوم بالعملة المحليّة تتزايد بالتناسب مع تدهور قيمة العملة. في المقابل، كانت حاجات الإدارات الرسميّة التمويليّة ترتفع بالنظر إلى ارتفاع الكلفة التشغيليّة بالليرة، نتيجة هبوط سعر صرف العملة المحليّة. وهذا ما فرض شللاً في العديد من المؤسسات والإدارات العامّة، التي لم تكفِ مخصصاتها لتمويل احتياجاتها التشغيليّة. ولهذا السبب أيضاً، لم تتمكن الدولة من مواءمة وتصحيح رواتب العاملين في القطاع العام، بالتوازي مع تهاوي القيمة الشرائيّة لرواتبهم بالليرة.

كما أدّى هذا التشوّه في الإجراءات الضريبيّة إلى حالة من عدم العدالة بين المكلّفين ضريبياً. فأصحاب الرواتب والمداخيل المقوّمة بالعملة المحليّة كانوا يسددون الضريبة المستحقة، كنسبة من إيراداتهم بقيمتها الحقيقيّة. أمّا أصحاب المداخيل والرواتب بالدولار، فكانوا يسددون الضريبة كنسبة من إيراداتهم، لكن بعد تقييمها بقيمة زهيدة، وفقاً لسعر صرف منخفض جداً وغير واقعي. وفي الوقت نفسه، كانت قيمة الرسوم الجمركيّة الزهيدة جداً، قياساً بقيمة السلع المستوردة الفعليّة، تُبطل الحماية التي كان يفترض أن تستفيد منها السلع المُنتجة محليّاً، من خلال الرسم الجمركي.

باختصار، كان لا بدّ من تصحيح كبير في السياسة والإجراءات الضريبيّة، بما يتماشى مع التحوّلات التي طرأت على قيمة الليرة مقابل الدولار. ولهذا السبب بالتحديد، أعلنت وزارة الماليّة في لبنان عن رزمة من القرارات التي استهدفت تعديل أسعار الصرف المعتمدة لاستيفاء رسوم الجمارك وضريبة الدخل، كجزء من الإجراءات المكمّلة لقانون موازنة العام الحالي. ووفقاً لهذه القرارات، تم رفع سعر صرف الدولار الجمركي لغاية 15 ألف ليرة مقابل الدولار، واعتماد تسعيرة منصّة مصرف لبنان لاستيفاء ضريبة الدخل على الرواتب المقوّمة بالعملات الأجنبيّة (يقارب سعر المنصّة اليوم حدود 31.200 ليرة للدولار).

عمليّاً، بدأت وزارة الماليّة تطبيق هذه الإجراءات ابتداءً من بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، وهو ما سيرفع سعر صرف الدولار الجمركي بنحو 10 مرّات دفعة واحدة، فيما سيتضاعف سعر الصرف المعتمد لاحتساب ضريبة الدخل بأكثر من 20 مرّة. ولعلّ الزيادة المفاجئة والسريعة في هذه الرسوم، بعد غض النظر عن أزمة تعدد أسعار الصرف طوال السنوات الثلاث الماضية، هي تحديداً التي أثارت خشية عموم المقيمين من الارتفاع الكبير المتوقّع في أسعار السوق، كنتيجة لهذه التعديلات. مع الإشارة إلى أنّ نسبة هذا الارتفاع ستتفاوت وفقاً لنسب الرسم الجمركي المعتمدة لكلّ صنف من أصناف السلع المستوردة. كما ستتفاوت بحسب منشأ هذه السلع، وفقاً للاتفاقيات التجارية الموقعة بين لبنان والدول العربية والاتحاد الأوروبي.

في جميع الحالات، ورغم أهميّة تصحيح أسعار الصرف الضريبيّة من حيث المبدأ، انطوت طريقة اتخاذ هذه القرارات على ثغرات كبيرة، من شأنها أن تفرغ هذه الخطوة من مفاعيلها الإيجابية، أو أن تؤدّي إلى آثار عكسيّة لا تُحمد عقباها. بمعنى أوضح، ما تعتبره السلطة في لبنان اليوم تصحيحاً ضريبياً، قد لا يكون سوى إمعان في تشويه السياسة الضريبيّة.

الإشكاليّة الأولى هي أنّ لبنان لم يعالج بعد مسألة التهريب عبر المعابر الشرعيّة وغير الشرعيّة، إذ تسيطر البضائع المهرّبة اليوم على نصف السوق اللبناني. ولذلك، من شأن تصحيح سعر صرف الدولار الجمركي أن يساهم في تعزيز تنافسيّة السلع المهرّبة، على حساب السلع التي تدخل السوق بشكل نظامي، ما سيعني تلقائيّاً زيادة نسبة السلع المهرّبة في السوق. كما من شأن ذلك أن يدفع بعض التجّار الملتزمين بسداد الرسوم الجمركية، إلى أسواق التهريب، للتمكن من البقاء في السوق، ما سيقلّص الإيرادات المتوقّعة من الإجراءات الضريبية الأخيرة.

في الوقت نفسه، من المعلوم أنّ نسبة العمالة غير النظامية، أي غير المصرّح عنها للسلطة الضريبية، قد ارتفعت خلال سنوات الأزمة إلى أكثر من 80% من إجمالي القوّة العاملة. وذلك يعود تحديداً إلى تقلّص تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وانهيار قيمة تعويضاته بالليرة، ما أفقد العمّال الحافز الأساسي للتصريح عن عمالتهم بشكل شرعي. مع الإشارة إلى أنّ هذا الصندوق يقدّم خدمات التغطية الصحيّة والتعويض التقاعدي للعمّال الشرعيين المصرّح عنهم للسلطة الضريبيّة، لكن بالعملة الوطنيّة التي خسرت أكثر من 96% في السنوات الثلاث الأخيرة.

بعد القرارات الأخيرة، وفي ظلّ اتجاه نحو العمالة غير النظاميّة، من المتوقّع أن تتزايد نسبة العمال الذين سينزحون نحو صفوف تلك العمالة، لتفادي الرسوم الضريبيّة المرتفعة الجديدة، بخاصّة بعد تعديل الشطور الضريبيّة نفسها، بما بات يقتطع ربع الراتب كضريبة في بعض الحالات. وستسهّل هذه العمليّة سيطرة الاقتصاد غير الشرعي على مفاصل النشاط التجاري في لبنان، وسهولة تهرّب الأفراد من ضريبة الدخل بأشكال كثيرة.

في الوقت نفسه، كان من المفترض أن تنجز السلطة، وقبل دخول هذه الإجراءات حيّز التنفيذ في بداية الشهر الحالي، قوائم منظّمة تفصّل السلع المعفاة من الإجراءات الجديدة، بخاصة بالنسبة إلى واردات المواد الأوليّة التي تستفيد منها الصناعة المحليّة، القادرة على تأمين البديل عن السلع المستوردة. إلا أنّ تطبيق هذه الإجراءات اتسم حتّى اللحظة بالتخبّط والفوضى، وتضارب المعلومات. ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن يستفيد من حالة الفوضى هذه بعض التجّار والمستوردين، الذين سيتمكنون من زيادة الأسعار، من دون أن تشملهم بالضرورة الزيادات الضريبية.

أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ سعر صرف الدولار الجمركي الجديد، أي 15 ألف ليرة مقابل الدولار، والذي دخل حيز التنفيذ بداية من ديسمبر ليس سوى مرحلة انتقاليّة قبل أن يتضاعف لاحقاً مع الاتجاه نحو توحيد وتعويم سعر صرف الليرة. ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن تتكرّر تجربة تخزين السلع من قبل بعض التجّار، للاستفادة من فرق الأسعار بعد زيادة سعر صرف الدولار الجمركي لاحقاً. وطالما أنّ لبنان لم يصل إلى مرحلة توحيد وتعويم سعر الصرف، فمن المتوقّع أن تعاني جميع المعالجات والإجراءات المؤقتة من هذا النوع من الثغرات.

باختصار، مشكلة التصحيح الضريبي الأخير أنّه جاء بمعزل عن خطة المعالجة الشاملة، التي كان من المفترض أن تتعامل مع مشاكل أخرى كالتهريب وتعدد أسعار الصرف والعمالة غير النظامية وأزمة القطاع المالي وغيرها.

المساهمون