السؤال الذي يطرح نفسه على المتابعين لأداء الاقتصاد المصري ومعركة الأسعار في أكبر سوق عربي هو: هل الحكومة المصرية جادة فعلا في مكافحة التضخم المرتفع الذي بات يأكل الأخضر واليابس، وتسبب في قذف ملايين المواطنين في آتون الفقر المدقع والجوع وربما التسول والانتحار، وأدى إلى حدوث تهاو قياسي ومتواصل لقيمة الجنيه المصري مقابل الدولار؟
الإجابة لا، فهناك عشرات الشواهد التي تؤكد على أن تلك الحكومة تتعامل باستخفاف شديد مع آفة التضخم التي تعد من أكبر وأخطر الأزمات التي يمكن أن تواجه أي اقتصاد في العالم لمخاطرها الشديدة على العملة والقوى الشرائية والأسواق وسوق الاستهلاك ومناخ الاستثمار والقطاع الصناعي والتصديري، بل وعلى كل أوجه الأنشطة الاقتصادية في الدولة؟
الحكومة تسكب مزيدا من الزيت لا الماء على نيران التضخم، وتقديم مزيد من الحطب للأسواق المشتعلة في كل بيوت المصريين تقريبا
من بين تلك الشواهد القرارات الحالية والمرتقبة للحكومة والمتعلقة بزيادة أسعار السلع والخدمات بما فيها السلع الحياتية والغذائية والخدمات الأساسية من كهرباء ووقود ومواصلات وغيرها، وهو ما يعني سكب الحكومة مزيدا من الزيت لا الماء على نيران التضخم، وتقديم مزيد من الحطب للأسواق المشتعلة في كل بيوت المصريين تقريبا.
فوزارة الكهرباء تبحث حال زيادة فواتير الكهرباء المنولية بنسبة كبيرة، وربما تحرير الأسعار بشكل تام رغم تعهدها أكثر من مرة بتأجيل تلك الزيادة بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها المواطن وغلاء الأسعار بشكل فاحش.
وهيئة الأدوية المصرية رفعت هذا الأسبوع بالفعل أسعار عشرات الأدوية المهمة للمرضى، وهو ما دفع شركات الأدوية الخاصة لرفع أسعار معظم الأدوية بما فيها تلك المعالجة لأمراض مزمنة، أو ليس لها بديل خارجي مقبول السعر.
ووزارة المالية رفعت الرسوم والضرائب على عشرات الأنشطة في مخالفة صريحة لتعهدات سابقة بألا تفرض ضرائب جديدة خلال العام المالي المقبل.
كما فرضت رسم تنمية بنسبة 10% من الرسوم الجمركية على بعض السلع المستوردة، ومضاعفة رسوم مغادرة البلاد إلى 100 جنيه، وفرض ضريبة جديدة بسعر 2% من قيمة المنتج النهائي للسلع المعمرة بأنواعها، بما في ذلك جميع الأجهزة الكهربائية، وخضوع كل موظف أو عامل للضريبة في حال تقاضيه أكثر من ثلاثة آلاف جنيه شهرياً، أي ما يقل عن 100 دولار.
وزارة المالية رفعت الرسوم والضرائب على عشرات الأنشطة في مخالفة صريحة لتعهدات سابقة بألا تفرض ضرائب جديدة خلال العام المقبل
ووزارة التموين رفعت أسعار العديد من السلع التموينية بما فيها الأرز والسكر والزيوت والعدس والفول والدقيق والشاي والجبنة وغيرها من السلع الحياتية.
وأسعار السلع تواصل زيادتها في الأسواق بلا توقف رغم مقاطعة المستهلك للعشرات منها بسبب ضعف قدرته الشرائية، وإصابة الأسواق بحالة شديدة من الركود.
التضخم خطر وسم قاتل، ولذا تعمل كل حكومات العالم على ترويضه وكبحه عبر أدوات عدة منها التشدد النقدي وسحب السيولة ورفع أسعار الفائدة، لأن التضخم المرتفع خطر على الاقتصاد حيث يطرد الاستثمارات الأجنبية والمحلية على حد سواء، ويضعف القدرة الشرائية للمواطن، ويضغط على العملة المحلية ويجعلها ضعيفة أمام الدولار.
وبسبب هذه المخاطر وغيرها تولي الحكومات اهتماما كبيرا بقضية محاربة التضخم المرتفع، ولا تتعامل معها باستخفاف شديد كما يحدث حاليا، بل وأحيانا تتقدم قضية مواجهة التضخم على قضايا أهم، منها رفع معدل النمو الاقتصادي والمحافظة على استقرار العملة وسوق الصرف.
إطفاء نار التضخم في مصر يتطلب قيام الدولة أولا بوقف الزيادات المتواصلة في أسعار السلع والخدمات، والتوقف عن تبني سياسة الزيادات القياسية للضرائب والتي ترهق المواطن والمستثمرين معا.
وثانيا أن تبحث الدولة تطبيق آليات لكبح التضخم منها خفض الضرائب وليس زيادتها، وزيادة المعروض من السلع وزيادة الأجور، وخلق وظائف جديدة، ودعم برامج الحماية الاجتماعية.
على الحكومة أن تتوقف عن تبني سياسة "النيوليبرالية" المتوحشة والتي تقوم من خلالها ببيع السلع والخدمات بسعر التكلفة حتى للطبقات الفقيرة
وثالثا أن تتوقف الحكومة عن تبني سياسة "النيوليبرالية" المتوحشة والتي تقوم من خلالها ببيع السلع والخدمات بسعر التكلفة حتى للطبقات الفقيرة، وهو أمر غير موجود حتى في النظم الرأسمالية التي توفر حماية قوية لتلك الطبقات.
وللأسف فإن هذا السيناريو الذي تمد فيه الدولة يدها ومساعدتها لرعاياها مستبعد طالما أن الحكومة مقتنعة بأن جيب المواطن هو الحل لكل الأزمات الاقتصادية والمالية بما فيها سداد أعباء الديون الخارجية والمحلية، وبالتالي لن يتراجع معدل التضخم، وستظل الأسواق ومعها المواطن والعملة المحلية تدور في فلك الغلاء المظلم والعميق.