استيقظ سكان جزيرة بورنهولم الدنماركية في بحر البلطيق، الاثنين الماضي، على انقطاع تام للتيار الكهربائي بتوقف عمل الكابلات العابرة للسويد. وغير بعيد عن الجزيرة الصغيرة جرى قبل نحو أسبوعين استهداف خط سيل الشمال (نورد ستريم 1 و2) الناقل للغاز الروسي نحو شمال ألمانيا، لتشتعل بعدها التحليلات والتحذيرات من أن عصراً جديداً تدخله القارة الأوروبية في مواجهة ما يصفونها "حروباً هجينة" ضد البنى التحتية، في سياق مواجهة قاسية وممتدة بين الغرب وروسيا.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبي أورسولا فون ديرلاين، الأربعاء الماضي، إن البنية التحتية للطاقة في الاتحاد الأوروبي أصبحت هدفًا لأول مرة في التاريخ الحديث، مضيفة أنه يتعين على الاتحاد إجراء ترتيبات أمنية لحماية البنية التحتية الحيوية والاستفادة بشكل أفضل من أقمار المراقبة الصناعية لمنع أعمال التخريب.
كما يخطط الاتحاد الأوروبي لإجراء اختبار إجهاد للأمن المادي للبنية التحتية للطاقة الرئيسية، حيث قالت النرويج إن عدة دول أوروبية ترسل مساعدات لحماية منشآتها في بحر الشمال بعد انفجار خط أنابيب "نورد ستريم".
وقالت كادري سيمسون، مفوضة شؤون الطاقة بالاتحاد الأوروبي، يوم الجمعة، إنها ستعمل مع نظيرتها في الشؤون الداخلية الأوروبية إيلفا جوهانسون لإعداد خطة اختبار الإجهاد مع بدء مزيد من الدول في توجيه أصابع الاتهام إلى روسيا لتخريبها خطوط الأنابيب.
ويوم الأحد الماضي حذر مسؤول عسكري ألماني رفيع من شن مزيد من الهجمات المحتملة على البنية التحتية الحيوية للبلاد. وقال اللواء كارستين برور، قائد قيادة العملية الإقليمية في الجيش، إن محطات الطاقة والبنية التحتية للطاقة في ألمانيا قد تكون أهدافا محتملة لهجوم أجنبي.
وأضاف، في تصريح لصحيفة "بيلد" الألمانية، أنه "من الممكن تتعرض كل محطة نقل وكل محطة طاقة وكل خط أنابيب لهجوم، ويمكن أن تكون أهدافاً محتملة".
وهذه هي المرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين قبل 3 عقود التي تصبح فيها البنى التحتية الحيوية هدفاً على نطاق واسع. فقبل يومين من انقطاع التيار الكهربائي عن برونهولم، كانت السكك الحديدية الألمانية قد عاشت ساعات عصيبة بتعطيل أنظمتها.
بالنسبة للأوروبيين، فإن البنية التحتية لا تقتصر على قطاع تخزين الطاقة فقط، بل تشمل قطاعات حيوية لمجتمعاتها، مثل الصحة والغذاء والأمن والنقل وأنظمة المعلومات والمواصلات والخدمات المالية، وما إلى ذلك في شكل محطات مياه وطاقة ومحطات المحولات وخطوط الغاز وكابلات الإنترنت والهاتف وعمل الشركات والمصانع.
وبالنسبة للمفوضية الأوروبية، فإن العواقب الوخيمة لفشل البنية التحتية الأوروبية لا تقتصر على المجتمعات في القارة، بل تؤثر على المستوى العالمي بسبب تشابك العلاقات والمصالح.
وفي سياق الصراع مع روسيا بات الأوروبيون يشعرون بواقع مختلف عما كان الحال عليه منذ عقود، أو على الأقل بحسب ما تذهب إليه التقديرات والتقارير الأمنية المحذرة من كوارث اندلاع حروب البنى التحتية الحيوية، بعد تراخ امتد لأكثر من ربع قرن، ركزت فيه أوروبا كثيراً على ما سمي بـ"الإرهاب" أكثر من تركيزها على أخطار التهديد السيبراني والحروب الهجينة الكارثية على بناها التحتية.
من جانبها، اعتبرت موسكو منذ أشهر أن تطبيق الغربيين عقوبات اقتصادية - مالية قاسية عليها بمثابة حرب هجينة على اقتصادها وشعبها. فبعد سنوات طويلة من مواصلة الأوروبيين التعامل مع روسيا، حتى بعد ضم شبه جزيرة القرم ودعم انفصالي شرق أوكرانيا (2014)، باعتبارها "شريكاً"، بل وتبنت ألمانيا نهجاً في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل يقوم على اعتبار التجارة أمراً حيوياً للتغيير والتقارب مع موسكو.
لكن مع اندلاع الحرب على أراضي وتخوم أوروبا، بمستوى غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، تزايدت عمليات التخريب الخاصة بالبنى التحتية. وفي إبريل/ نيسان الماضي تعرضت كابلات الاتصالات السلكية واللاسلكية للتخريب في عدة مدن فرنسية.
وقالت وكالة فرانس برس وقتها: "ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تخريب كابلات الاتصالات السلكية واللاسلكية في فرنسا، فقد انقطع الإنترنيت عن عشرات الآلاف في العام 2020".
وتتعرض أوروبا حالياً لأزمة الطاقة والتضخم وارتفاع فاتورة المعيشة الأوروبية ويتعرض المواطنون لضغوط معيشية هائلة لتضاف إليها أزمات تخريب البنى التحتية. ويحذر متخصصون اقتصاديون من النتائج السلبية لتخريب البنى التحتية وكلفتها المالية الضخمة على اقتصادات منطقة اليورو وعموم القارة العجوز.
ووفق خبراء، فإن عمليات التخريب هذه تصب في سياق الحرب الهجينة مع روسيا، وباعتبارها تستهدف أيضاً بناها التحتية الحيوية، للتأثير على الطبقات السياسية الحاكمة بإثارة غضب الشارع ضدها مع سوء الأوضاع الاقتصادية.
وينظر هؤلاء إلى أن سياسة برلين التي أصرت بعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014 على استكمال مشروع نقل الغاز الروسي عبر "نورد ستريم 2"، أوقعت القارة في شباك الابتزاز الروسي.
وتظهر أوساط أوروبية وسط أزمة الغاز الطبيعي غضباً وامتعاضاً من السياسة الألمانية تجاه روسيا، وترى أن هذه السياسة المتساهلة كلفت ألمانيا نحو 200 مليار يورو لإنقاذ مواطنيها وشركاتها من براثن أزمة أسعار الطاقة وارتفاع منسوب التضخم.
ورغم أن الغضب يصدر أحيانا عن سياسيين مثيرين للجدل في علاقتهم المتوترة مع عاصمة الاتحاد الأوروبي، مثل المجري فيكتور أوربان، وأقطاب الحكومة الإيطالية المتشددة القادمة، ورئيس الحكومة الإيطالية الأسبق سلفيو بيرلسكوني، ووزير الداخلية السابق المتطرف ماثيو سالفيني، إلا أنها حالة غضب تدفع بالأوروبيين إلى إعادة التفكير جدياً بالخطر الذي يحدق بالبنى التحتية الهامة للقارة وقدرتها على البقاء في ريادة عالمية مع واشنطن وبكين.
وأدت عمليات التخريب التي تعرض لها خطا غاز "نورد ستريم" إلى استيقاظ بروكسل، والتفتيش بجدية عن بواعث القلق في التقارير الأمنية السابقة. فقد جربت القارة منذ 2014 و2015 معنى اندلاع الحروب الهجينة والهجمات السيبرانية لتعطيل بعض المنشآت الحيوية. ولكن تبدو الأمور الآن أكثر تعقيداً وحساسية.
فرغم هيمنة حلف شمال الأطلسي، بانتشار عسكري غير مسبوق في بحر البلطيق، لم يثن ذلك "فاعلين" من تخطي "الخطوط الحمراء"، باستهداف الأنابيب. ويثير ذلك قلقاً عميقاً لدى ثلاثة من الأجهزة الاستخبارية في "دول الشمال"، حيث يتزايد التحذير من أن المنطقة، وإن لم تصل إلى مستوى استهداف الملاحة كما في البحر الأسود، يمكن أن تشهد المزيد من عمليات التخريب.
من جانبها، أضافت الاستخبارات النرويجية والدنماركية والسويدية إلى تحذيراتها السابقة بعداً جديداً وخطيرا، وهي مخاوف استهداف منصات استخراج الطاقة الاسكندنافية في بحر الشمال بطائرات مسيرة وربما الخط النرويجي الجديد، خط أنابيب البلطيق، الذي افتتح للتو على طول 800 كيلومتر إلى بولندا عبر المياه الدنماركية.
وكانت رئيسة وزراء استونيا كاجا كالاس قد عبرت، يوم الجمعة الماضي، بوضوح عن أن أوروبا بالفعل في خضم حرب أخرى إلى جانب الحرب التقليدية (في أوكرانيا)، معتبرة أن "هناك حرب معلومات وحرباً إلكترونية"، مشددة على أن "الطاقة جزء من الحرب الهجينة، ويستخدم بوتين الطاقة كسلاح في حربه ضد أوروبا"، وقالت "علينا أن نقف معاً لتجاوز الشتاء القاسي، حتى لو كان بوتين يعتقد أننا لا نستطيع البقاء على قيد الحياة".
وحسب خبراء، لا يغيب عن بال صناع القرار الأوروبيين أن موسكو ترغب في استخدام الاقتصاد لأجل خنق السلطات في الشوارع الأوروبية وتراهن على اشتعال الاحتجاجات ضد الحكومات مستغلة في ذلك مفاقمة ارتفاع كلفة الحياة، إلى جانب إحداث انقسام داخل القرار الأوروبي.
لكن لا يزال التأييد قوياً في الشارع الأوروبي لدعم أوكرانيا رغم الكلفة المالية المرتفعة من الفواتير وارتفاع التضخم. ويسارع الأوروبيون هذه الأيام إلى محاصرة المخاطر العالية على البنية التحتية الرقمية وأنظمة الطاقة البحرية، دون إغفال أن تحدث هجمات تستهدف بنى تحتية من خلال ما يشبه شن حرب سيبرانية متعددة الأطراف.
وعلى الرغم أن أنه لا توجد أدلة حتى الآن على أن روسيا وراء عمليات التخريب التي حدثت في خطوط السكك الحديدية بألمانيا أو حتى خطوط نورد ستريم لنقل الغاز، إلا أن لجان الأمن والسياسات الخارجية في برلمانات الدول الأوروبية تلمح إلى أن موسكو وراء هذه الهجمات، وذلك على اعتبار أن روسيا هي المستفيدة من عمليات التخريب، وخاصة أن الشتاء بات على الأبواب وهو الاختبار الحقيقي لصمود أوروبا في وجه روسيا، خاصة على صعيد الغاز الطبيعي.