يمضي الاتحاد الأوروبي قدماً في محاولاته إعادة صياغة العلاقات التجارية والاقتصادية مع الصين، وسط قلق متزايد من تنامي نفوذ بكين على سلاسل التوريد لقطاعات استراتيجية في القارة العجوز، ما يجعله يرغب في التفاوض بشأن كل قطاع على حدة "لإزالة المخاطر" في نهج بديل لـ"الانفصال" عن بكين الذي يبدو "انتحارياً" في ظل سيطرة العملاق الآسيوي على سلاسل التوريد ليس إلى أوروبا فحسب وإنما إلى دول يُنظر لها على أنها قد تكون بديلة للصين.
يجري المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي فالديس دومبروفسكيس، محادثات في الصين تستمر أربعة أيام تستهدف بشكل أساسي تقليص الفجوة التجارية المتعلقة بالمنتجات الاستراتيجية، في وقت تتصاعد فيه الانتقادات المتبادلة بين الطرفين أخيراً بشأن إجراءات أوروبية تصب في اتجاه كبح التمدد الصيني، إذ أعلنت بروكسل قبل أيام عن التحقيق في دعم الصين لسياراتها الكهربائية، في خطوة أثارت غضب بكين التي وصفت الإجراء بأنه "حمائي سافر" من شأنه أن يعطل ويدمر بشكل خطير سلسلة صناعة السيارات العالمية.
ويبدو أن الخلاف لا يقتصر على سوق السيارات وإنما مختلف القطاعات، إذ يزداد انزعاج أوروبا من اتساع العجز التجاري مع الصين وتعرض شركات في قطاعات حيوية للإفلاس بسبب المنافسة السعرية الكبيرة مع الشركات الصينية التي تتحول إلى مورد حصري مع إزاحة الشركات المثيلة من الأسواق.
وقال دومبروفسكيس، في خطاب ألقاه، السبت، ضمن منتدى "الحوار الاقتصادي والتجاري رفيع المستوى بين الاتحاد الأوروبي والصين" المنعقد في شنغهاي، إنه على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يسعى لتقليص الفجوة التجارية المتعلقة بالمنتجات الاستراتيجية، فإن هذا لا يعني أن الاتحاد سوف ينفصل عن الصين، التي تربطه بها تجارة قياسية.
وهذا المنتدى رئيسي لكبار المسؤولين لمناقشة القضايا المتعلقة بالاقتصاد الكلي والعوامل المؤثرة سلباً على التجارة وسلاسل التوريد والخدمات المالية. كما يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لعقد قمة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين في وقت لاحق من العام الجاري.
مجالات قلق جديدة
وفي مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، نُشرت، أمس الأحد، حذر المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي من "مجالات قلق جديدة" في علاقة الكتلة مع الصين، مضيفاً: "نريد الحفاظ على علاقة تجارية مع الصين، هذا أمر مهم، فهي ثاني أكبر شريك تجاري لنا... لكننا بحاجة إلى معالجة جوانب معينة من هذه العلاقة".
وقال دومبروفسكيس، إن نيته كانت إجراء "مناقشات محددة لكل قطاع على حدة" فيما يتعلق بالعجز، مشيراً إلى وجود خلل ملحوظ في التجارة. وأوضح أن الكتلة "بحاجة إلى حماية نفسها في المواقف التي يتم فيها إساءة استخدام انفتاحها.. كما أنه من الضروري توسيع نطاق الوصول إلى السوق الصينية للشركات الأجنبية".
وفي وقت سابق من سبتمبر/أيلول الجاري قال سفير الاتحاد الأوروبي لدى الصين، جورجي توليدو، إن العجز كان "الأعلى في تاريخ البشرية" في حين كشفت غرفة التجارة الأوروبية عن أكثر من ألف توصية للحكومة الصينية لحل التحديات التي تواجه أعمالها.
وتأتي التوترات المتزايدة والتدقيق في العلاقات التجارية في وقت صعب بالنسبة للاقتصاد الصيني، الذي يكافح من أجل الانتعاش بشكل كامل بعد ثلاث سنوات من قيود مكافحة فيروس كورونا.
وقال المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي في مقابلته مع الصحيفة البريطانية في شنغهاي إن "النموذج الاقتصادي الصيني يواصل التركيز بشكل كبير على الاستثمار والاستثمار الموجه للتصدير، في حين أن الطلب المحلي يتخلف عن الركب" في إشارة إلى عدم قدرة الشركات الأوروبية على النفاد إلى السوق الصينية، مؤكدا أن ذلك كان من بين "العوامل" وراء العجز التجاري.
لكن وو هونغبو، ممثل بكين الخاص للشؤون الأوروبية، قال مؤخراً إنه "يجب أن يكون الأمر متروكاً لأوروبا والدول الأوروبية فيما يجب بيعه للصين".
ويؤكد محللون أن الكتلة الأوروبية تواجه مهمة "صعبة للغاية" لتقليل الاعتماد على بكين. فقد زادت الواردات من الصين إلى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك التكنولوجيا الحساسة والمعادن الهامة في السنوات الأخيرة، على الرغم من إجراءات وخطط "إزالة المخاطر" مع بكين.
الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي
وأصبحت الصين في العام 2020 الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي للمرة الأولى، متجاوزة الولايات المتحدة، بفضل الانتعاش السريع لاقتصادها الأقل تأثراً بوباء كورونا آنذاك من اقتصادات الشركاء الغربيين.
وخلال 2020 بلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي مع الصين أي مجموع الصادرات والواردات 586 مليار دولار، مقارنة بـ 555 مليار دولار مع الولايات المتحدة، وفقا لأرقام "يوروستات"، لتواصل التجارة قفزاتها مسجلة 912.6 مليار دولار العام الماضي.
وتظهر الأرقام ان العجز التجاري بين الكتلة الأوروبية وبكين بلغت نحو 400 مليار يورو (440 مليار دولار) في 2022. ومع ذلك، يتقبل مسؤولو الاتحاد الأوروبي بشكل متزايد أن قطع العلاقات مع اقتصاد يمثل 14% من صادرات السلع العالمية سيكون أمراً صعباً.
فقد اعترفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في وقت سابق من العام الجاري بأن الكتلة لا يمكن أن "تنفصل" تماماً عن التجارة مع بكين. وبدلاً من ذلك، ستعمل على "إزالة المخاطر" من اقتصادها من خلال إنتاج سلع تعتبر مهمة للأمن القومي داخل الاتحاد الأوروبي.
وتُظهر بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي أن قيمة السلع القادمة من الصين وهي أكبر مصدر في العالم تضاعفت تقريباً بين عامي 2018 و2022. وخلال النصف الأول من العام الجاري 2023، ظلت الصين إلى حد بعيد أكبر مورد للسلع إلى دول الاتحاد.
ونجحت الصين خلال السنوات الماضية في إقناع الاقتصادات الصناعية الكبرى بوضع الكثير من بيضها في السلة الصينية. وقال جون بلاكسلاند، أستاذ دراسات الأمن الدولي والاستخبارات في الجامعة الوطنية الأسترالية لصحيفة فاينانشال تايمز مؤخراً: "من الصعب للغاية تخليص أنفسهم تماماً من مأزقهم".
ومن بين القضايا المقلقة لأوروبا هي أمن الطاقة، إذ أن جهود الاتحاد الأوروبي لتصنيع المزيد من تقنيات الطاقة الشمسية تتعرض للتقويض من قبل منافسين أرخص في الصين.
واردات صينية رخيصة
فقد حذرت صناعة الطاقة الشمسية في أوروبا من أن وفرة الواردات الصينية الرخيصة دفعت بعض الشركات المصنعة إلى حافة الإفلاس، مما يعيق جهود الاتحاد الأوروبي لتعزيز الإنتاج المحلي للتكنولوجيات الخضراء.
وكتبت مجموعة "Solar Power Europe"، وهي مجموعة تجارية للصناعة، إلى المفوضية الأوروبية في وقت سابق من سبتمبر/أيلول الجاري، إن المخزونات المرتفعة و"المنافسة الشرسة" بين المصنعين الصينيين للحصول على حصة في السوق في أوروبا قد أدت إلى انخفاض أسعار وحدات الطاقة الشمسية بأكثر من الربع في المتوسط منذ بداية العام الجاري.
وجاء في الرسالة: "هذا يخلق مخاطر ملموسة للشركات للدخول في حالة إفلاس، حيث ستحتاج إلى تخفيض قيمة أسهمها الكبيرة".
وأضافت أن الشركة النرويجية كريستالز، وهي شركة منتجة للسبائك المستخدمة في الخلايا الشمسية، تقدمت بالفعل بطلب لإشهار إفلاسها في أغسطس/آب الماضي. وقالت شركة نورسون، وهي شركة نرويجية أخرى للطاقة الشمسية، هذا الشهر إنها ستعلق الإنتاج حتى نهاية العام.
ويأمل الاتحاد الأوروبي أن تصبح الطاقة الشمسية أكبر مولد للطاقة داخل الكتلة بينما يحاول الوصول إلى هدف الحصول على 45% من الطاقة المولدة من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030.
لكن هيمنة الصين على سلسلة توريد الطاقة الشمسية تعني أن منتجاتها تمثل حوالي ثلاثة أرباع واردات الكتلة من الطاقة الشمسية، مما يثير مخاوف من أن الاتحاد الأوروبي يطور اعتماداً على الصين يشبه اعتماده على الغاز الروسي حتى غزو موسكو لأوكرانيا نهاية فبراير/ شباط من العام الماضي. وقالت "Solar Power Europe" إن تكلفة تصنيع وحدة الطاقة الشمسية في أوروبا تزيد عن ضعف السعر الفوري الحالي.
الحد من المنافسة غير العادلة
وقد سعى الاتحاد الأوروبي بالفعل إلى الحد من المنافسة غير العادلة من جانب الصين من خلال فرض تعريفات جمركية على الواردات الصينية في عام 2012، بعد أن قدمت بكين إعانات ضخمة لصناعتها للطاقة الشمسية. لكن الكتلة رفعتها مرة أخرى في عام 2018 من أجل تعزيز منشآت الطاقة المتجددة. ولم تقم بروكسل بإعادة تفعيلها منذ ذلك الحين.
فك ارتباط أوروبا عن الاقتصاد الصيني أمر معقّد وفق تقرير أخير لمجلة فورين بوليسي الأميركية. لذا جرى اعتماد مبدأ "إزالة المخاطر"، كبديل لـ"الفصل" في التعامل مع الصين في جميع أنحاء أوروبا وحتى في الولايات المتحدة الأميركية التي خاضت حرباً تجارية واسعة ضد بكين.
وبحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، فإن فصل دور الصين في سلاسل التوريد العالمية، حتى في المناطق المحدودة، بعيد كل البعد عن الوضوح.
وقالت الصحيفة إن حصة واردات السلع الأميركية من الصين تراجعت في السنوات الأخيرة، بينما توسعت مع دول آسيوية أخرى، مشيرة إلى أن العديد من هؤلاء الشركاء التجاريين البديلين مثل فيتنام أو كوريا الجنوبية هم أنفسهم متشابكون بعمق مع الصين.
وخلصت الصحيفة إلى القول بأن هيمنة الصين على تكنولوجيا الطاقة النظيفة على سبيل المثال تجعل إدارة الرئيس جو بايدن مترددة في دفع الشركات لتجنب المنتجات الصينية تماماً، كما أن التحديد الدقيق للصناعات التي ترى فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها أن الصين تشكل تهديداً، يمثل تحدياً.