يبدو أن الصراع بين القوى الغربية وتحالف "بكين - موسكو" وصل المنعطف الخطر في السنوات الأخيرة التي شهدت تقاطع النفوذ الجيوسياسي بالمصالح الاقتصادية.
ولكن هذا المنعطف الخطر لم يحدث فقط بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا أو حتى بسبب الخلاف حول جزيرة تايوان، لكن بسبب تقاطع مصالح التجارة والاقتصاد والموارد الطبيعية التي تشكل مستقبل"النظام العالمي" الجديد وتوسع النفوذ الاقتصادي الصيني وتمددها التجاري.
وبدا ذلك جلياً في تعثر التفاهمات بين بكين وواشنطن الأخيرة في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للصين وتساهل كل من واشنطن وبروكسل تجاه خروقات شركات الطاقة الهندية للعقوبات الغربية الخاصة "بالسقف السعري" للنفط الهندي.
وسط هذا الواقع المزعج تجد أوروبا الحليف التقليدي للولايات المتحدة والتي تربطها مصالح تجارية واسعة مع الصين في مفترق الطرق بين العملاقين التجاريين الكبيرين في العالم وتبحث عن طريق ثالث لحماية مصالحها الاقتصادية من التمدد التجاري والاقتصادي الصيني في أسواقها، وكذلك حماية حدودها من أطماع موسكو الخاصة بالتمدد الجغرافي واستعادة نفوذها السابق في أوروبا الشرقية التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي.
في هذا الصدد يرى المفوض الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، أن التعامل مع التمدد الاقتصادي الصيني ومخاطره على الكتلة الأوروبية بات أكثر تعقيداً من التهديد الروسي، حيث إن الصين خلافاً لأوروبا تمثل نسبة 20% من الاقتصاد العالمي وتواصل التوسع بينما تمثل روسيا نسبة 2%.
وبالتالي بات واضحاً أن الصين لديها طموح في بناء "نظام عالمي" جديد يكون مركزه بكين، ربما بحلول منتصف القرن الجاري.
وهي نيات لا تخفيها بكين رغم ضغوط واشنطن التجارية والمالية على شركاتها. ومعروف أن أوروبا تواجه حالياً أزمات اقتصادية تضعها على حافة الركود الاقتصادي وزيادة في المواطنين كبار السن أصحاب المعاشات وتناقصاً في القوى العاملة الشابة التي تساهم في تمويل الميزانيات عبر الضرائب.
ويرى اقتصاديون أن التمدد الاقتصادي والتجاري الصيني في العالم يهدد أسواق الكتلة الأوروبية الداخلية، كما يهدد في ذات الوقت أسواق صادراتها العالمية ويحاصر شركاتها ومصالحها في التنقيب عن الطاقة والمعادن في الأسواق النامية، ومن هذا المنطلق وضعت المفوضية الأوروبية مقترح استراتيجية "الأمن الاقتصادي" التي أعلنت أمس الثلاثاء عن خطوطها العريضة وستتم مناقشتها بشكل موسع في قمة المجموعة الأوروبية المقبلة.
وتستهدف الاستراتيجية حماية مصالح الكتلة الاقتصادية والتجارية والاقتصادية التي تعني عملياً مقايضة مُثُل السوق الحرة التي ترسخت منذ فترة طويلة، بالمصالح الاقتصادية والتقارب أكثر مع الولايات المتحدة في "الحرب الباردة" ضد تحالف" بكين ـ موسكو".
ومن المتوقع أن يناقش قادة الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم في وقت لاحق من هذا الشهر الاستراتيجية.
وما يقلق أوروبا في الوقت الراهن هو توسع الحجم التجاري لبكين وتمدد السلع الصينية في السوق الأوروبية مقارنة بصادراتها للصين، وما يمثله ذلك من تداعيات خطرة على مستقبل الصناعة في أوروبا وتنافسيتها في الأسواق المحلية مقارنة بالبضائع الصينية الرخيصة وتأثير ذلك المباشر على ارتفاع البطالة.
وحسب إحصائيات "يورو ستات" الأخيرة بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي للصين في العام الماضي 2022، نحو 230 مليار يورو تقريباً، وذلك بزيادة حوالي 7 مليارات يورو عن العام 2021.
وبهذا الرقم سجل الاتحاد الأوروبي عجزاً تجارياً يزيد عن 365 مليار يورو مع الصين.
ويلاحظ أن المتغيرات الجيوسياسية الكبرى التي حدثت في الآونة الأخيرة، وعلى رأسها الحرب الروسية في أوكرانيا أبرزت ضعف أوروبا في تحقيق "أمن الطاقة" لمواطنيها واعتمادها الكامل على روسيا، كما أبرزت جائحة كورونا في عام 2020 اعتماد الصناعات الأوروبية، على سلاسل الإمداد الصينية، خاصة صناعة السيارات في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
وتتخوف الدول الأوروبية من التقدم الذي تحدثه الصين في مجال السيارات الكهربائية على مستقبل صناعة السيارات في أوروبا.
من هذا المنطلق يرى اقتصاديون، أن هنالك ضرورة لوضع "استراتيجية واضحة المعالم للأمن الاقتصادي الأوروبي".
في هذا الصدد يقول الاقتصادي بمعهد بروغيل للدراسات في بروكسل، أندريه سابير، "من الواضح أن تعريف الأمن الاقتصادي الأوروبي بات بالغ الأهمية لأوروبا ويجب ألا يمثل منعطفاً أيديولوجيا في سياسة أوروبا تجاه الصين، ولكنها خطوة لحماية المصالح الاقتصادية للكتلة من الابتزاز التجاري والاعتماد على سلاسل الإمداد الصينية".
وتتهم أوروبا بكين بعدم احترامها لحقوق الملكية الفكرية وبعض نصوص اتفاقات منظمة التجارة العالمية.
وحسب خبراء في الكتلة الأوروبية فإن الاستراتيجية الجديدة للأمن الاقتصادي تستهدف تحديد نقاط الضعف ومخاطر الاعتماد على الصين في تقنيات الاتصالات مثل تقنية " جي 5" التي تستخدمها هواوي وصناعة الشرائح والمواد الخام التي تعتمد عليها الصناعة الأوروبية في المستقبل مثل المعادن النادرة التي تهيمن عليها الصين حالياً وباتت معادن رئيسية في التحول العالمي من الطاقة الهيدروكربونية إلى الطاقة الخضراء.
في هذا الصدد قال مفوض السوق الداخلي الأوروبي، تيري بريتون الأسبوع الماضي، لا يمكن الاعتماد على تقنيات اتصالات يمكن أن تستخدم لاحقاً ضد مصالحنا"، في إشارة إلى تقنيات "جي 5" الصينية.
وحسب تقرير أوروبي تتناول استراتيجية "الأمن الاقتصادي الأوروبي"، إلى جانب مواضيع تقنية الاتصالات الصينية وصناعة الشرائح المتقدمة والمعادن النادرة، الاستثمارات الأوروبية المباشرة في الخارج خاصة في القطاعات الحيوية.
كما ستتناول كذلك كيفية تعزيز القوة التنافسية للشركات الأوروبية في قطاع الصادرات وتعزيز التنسيق بين الأعضاء لتنفيذ استراتيجية واحدة بين أعضائها في السيطرة على الواردات والصادرات لتفادي استراتيجية" فرق تسد" للنفوذ العالمي لأسواق الكتلة الأوروبية.
وهي استراتيجية شبيهة بالسياسات الحمائية التي نفذتها الولايات المتحدة على عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
التخلي عن الليبرالية وحرية السوق
حتى وقت قريب كان الخلط بين الاقتصاد والأمن القومي في اقتصادات السوق الحر والنظم السياسية الليبرالية، وعلى رأسها الكتلة الأوروبية غير واردة.
وحاولت أوروبا خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية فصل سياستها التجارية الليبرالية عن السياسة الخارجية، ولكن الصعود الاقتصادي والتجاري الصيني وتراجع أسواق الشركات الأوروبية في العالم مقابل نظيراتها الصينية فرض واقعاً جديداً على القوى السياسية في بروكسل.
ومنذ بداية العقد الجاري، قفزت مخاوف الأمن القومي إلى صدارة جدول الأعمال الأوروبي في أعقاب الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث أدى تخريب خط أنابيب نورد ستريم إلى قطع إمدادات الغاز، كما أدت ضغوط الولايات المتحدة لحظر موردي الاتصالات الصينيين، إلى ضوابط جديدة على تصدير معدات الرقائق الهولندية إلى الصين.
في هذا الشأن، قالت عضو البرلمان الأوروبي، ماري بيير فيدرين، من مجموعة النهضة الليبرالية التابعة لإيمانويل ماكرون، "نحن بحاجة إلى أن نقرر بأنفسنا وأن نمنح أنفسنا الوسائل لاتخاذ القرار، وإلا فإننا في موقف من المخاطرة بالتبعية للآخرين.
ولكن من غير المعروف حتى الآن كيف ستنظر بكين لمثل هذه الاستراتيجية، وعما إذا كانت سترد بخطوة عقابية على الشركات الأوروبية التي تصنع في الصين وتبيع منتجاتها في السوق الصينية الضخمة".