أوروبا تخشى عودة "الأنانية الترامبية"

12 سبتمبر 2024
ترامب في مؤتمر صحافي في نيويورك، 6 سبتمبر/أيلول 2024 (شارلي تريبالو/ فرانس برس)
+ الخط -

لا يترك الأوروبيون تحديات العلاقة عبر الأطلسي للصدفة، وخصوصاً أخذ احتمال عودة المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على محمل الجد. ومنافسة ترامب للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس لا ينظر إليها في أوروبا باعتبارها شأناً أميركياً داخلياً فحسب.

اهتمام ساسة القارة، المنشغلين منذ فبراير/ شباط 2022 بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، بما ستؤول إليه علاقتهم بحليفهم عبر الأطلسي، يترافق مع المزيد من الإنفاق المالي على قضايا الدفاع والأمن، في وقت تغيب فيه مسلمات التحالف الناشئ منذ أربعينيات الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، مع الولايات المتحدة.

وليس سراً أن الأوروبيين المنقسمين يفضل ليبراليّوهم حكم واشنطن من الديمقراطيين، بينما يفضل أقصى اليمين واليمين القومي المحافظ وصول ترامب والمحافظين الجمهوريين إلى الحكم. وهذه الأيام، في سياق تنافس ترامب-هاريس، يمثل رئيس حكومة المجر اليميني القومي فيكتور أوربان، حليف فلاديمير بوتين، التيار الأوروبي الذي يرى في ترامب حليفاً.

المال الأكثر حضوراً على طاولة المصالح

تفضل النخب الأوروبية التقليدية الحفاظ على التعاون عبر الأطلسي على أساس قيم ومصالح واضحة ازدهرت في عهد الرئيسين الديمقراطيين بيل كلينتون وباراك أوباما. وتنظر هذه النخبة، المرتبطة بعالم المال والأعمال، إلى رسوخ العلاقة مع الحليف الأميركي كعامل من عوامل الرخاء والتقدم الاقتصادي في مجتمعاتها وتكاملها الاقتصادي على مستوى الاتحاد الأوروبي. فقد تعرضت العلاقة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي إلى انتكاسة في عهد ترامب، قبل أن يعيد بايدن إصلاحها على ضوء حاجة واشنطن لأوروبا في أولويات مواجهتها التحدي الصيني على المدى البعيد، والحرب في أوكرانيا وعودة الحرب الباردة مع روسيا.

وأهمية التعاون الاقتصادي بين الطرفين تنبع من أنهما معاً يشكلان تقريباً نحو 50% من إجمالي الناتج المحلي العالمي ومن التجارة العالمية. عليه، تفهم النخب الأوروبية الليبرالية وما يقابلها في أميركا أهمية تكامل الجانبين بصورة تُمكن طرفيها من مواجهة تحديات الصعود الصيني الصاروخي وسهولة منافسة اقتصاديهما كل على حدة. ومن خلال النظر إلى حصة أوروبا من الاستثمارات الأميركية يمكن فهم عمق حاجة الطرفين بعضهما لبعض، حيث تصل الاستثمارات إلى نحو 80% من مجمل الاستثمارات الأميركية العالمية، يضاف إلى ذلك أن المفوضية الأوروبية تؤكد من خلال أرقامها الرسمية على أن التعاون بين الجانبين يؤدي سنوياً إلى خلق أكثر من 14 مليون فرصة عمل.

في المقابل، كانت مسألة الإنفاق المالي الأوروبي على التسلح أو موازنات الدفاع على مستوى "الناتو" قد شكلت محور توتر العلاقة الأميركية بالحليف الأوروبي منذ 2017. وبصورة علنية أسس ترامب لحالة الشك بالمسلمات في علاقة الجانبين، من خلال طلبه، بلغة شعبوية ابتزازية، تخصيص الدول الأوروبية نحو 2% من الناتج الإجمالي المحلي لصرفها على الجيوش والقضايا الأمنية والدفاعية.

فكرة ترامب قامت على تهديد أن واشنطن لن تكون ملزمة بالدفاع عن القارة العجوز دون أموال ومساهمات مالية كبيرة في الخزانة العسكرية المشتركة في الناتو، وأن تصبح أوروبا أقل اعتمادا على الضفة الأخرى من الأطلسي. ومع أن قضية المال ليست جديدة في العلاقة عبر الأطلسي، إذ منذ ثمانينيات القرن الماضي، كان الرؤساء المتعاقبون على البيت الأبيض، جمهوريون وديمقراطيون، يولون أهمية لضرورة الحفاظ على الشريك الأوروبي، وخصوصا بعد تحقيق أوروبا نمواً وازدهاراً كبيرين بعد الخروج من أزمة قطع النفط العربي خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بين مصر وسورية من ناحية ودولة الاحتلال الإسرائيلي من ناحية ثانية. لكن أهمية مشاركة أوروبا مالياً في علاقة الطرفين لم تصل إلى مستوى ما وصلته خلال سنوات ترامب الذي اختار مواجهة جدلية في التصريح والسياسة مع دول الاتحاد الأوروبي.

مؤشرات وتجارب سيئة

الشرخ الذي أحدثته إدارة ترامب في العلاقة عبر الأطلسي يعود مجددا في 2024، مع مخاوف حقيقية من أن يتحقق احتمال العودة إلى ما توصف بـ"السياسات الترامبية". المسألة الإضافية التي تزيد اختلاف الجانبين الأميركي والأوروبي، بمعزل عن حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين في واشنطن، هي أن الأخيرة شهدت خلال العقد الأخير على الأقل تحولاً في الاهتمامات من أوروبا إلى آسيا، كجزء هام من أحدث استراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية عندما يتعلق الأمر بصعود الصين عالمياً، والخشية من اختلال التسلسل الهرمي الاقتصادي لمصلحة بكين.

أوروبا، أو على الأقل التيار الاقتصادي الليبرالي فيها، ألقت اللوم على ترامب في سوء علاقة الجانبين، لأنه ببساطة عزز عدم اهتمامه بأوروبا، على عكس أوباما مثلا أثناء التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة بين الطرفين. بالتأكيد شعرت أوروبا "غير الترامبية" منذ 2017 بما يشبه طعنة على مستوى المصالح حين كان ترامب يتحلل من معاهدات ومنظمات دولية. إذ حتى في ذروة جائحة كورونا في 2020 اختار ترامب، ودون تفاهم مع الحلفاء الأوروبيين، الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، والدخول في تنافس معهم بدل التعاون على تمويل وتطوير وتوزيع اللقاحات والتأهب والاستجابة، حيث كانت الصين تستغل ذلك التشقق لتتقدم تحت يافطة ما عرف باسم دبلوماسية كورونا.

وإلى جانب اختيار ترامب المصالح الأميركية الضيقة وتطبيق السياسات الحمائية، بشعار "استعادة عظمة أميركا مجدداً"، ذهب أيضا وبدون حوار مع الأوروبيين إلى الانسحاب من اتفاقية باريس المناخية، والتي خُصصت لأجلها الكثير من الأموال والاستثمارات الأوروبية، وارتكزت على ضرورة التعاون مع أميركا على التكنولوجيات الخضراء وخلق إطار قانوني للتمويل المستدام.

العلاقة الاقتصادية والتجارية ليست أقل أهمية في مسببات قلق القارة من ترامب ونائبه جي دي فانس، وخصوصا مع تصريحات الأخير في الثامن من أغسطس/ آب الماضي بأن "واشنطن ليست حارساً أمنيا لأوروبا". وركز فانس على أنه وترامب سيطالبان الأوروبيين بأن يكونوا قادرين على الاكتفاء الذاتي، ليس فقط لناحية القدرات العسكرية ورفع مستوى الصرف المالي عليها، بل على مستوى الاقتصاد والطاقة.

في ذاكرة الأوروبيين خطر تراجع العلاقة مع الحليف الأميركي. فقد برز بصورة حادة في اختلاف الطرفين في مسائل تجارية تمتد من الأغذية المعدلة وراثياً إلى اللحوم المعالجة بالهرمونات، وقضايا أخرى كثيرة. وفي عام 2018 اختار ترامب نهجاً أشبه بحرب اقتصادية مع أوروبا، حين فرض تعرفات جمركية على الصلب والألمونيوم من الاتحاد الأوروبي، ما أجبر القارة على الرد بفرض تعرفات مضادة على العديد من المنتجات الأميركية. كذلك انتكست جهود الأوروبيين المناخية في التحول الأخضر والتكنولوجيات المهمة.

وما أن خرج ترامب من البيت الأبيض، ركزت أوروبا مرة أخرى تعاونها مع إدارة بايدن على مدار السنوات الأربع الماضية، وتبنت ضرورة إصلاح منظمة التجارة العالمية وحماية التكنولوجيات المهمة، ووضع قواعد ومعايير جديدة، وضرورة قبول واشنطن آليات تسوية النزاعات في إطار "التجارة العالمية". أضف إلى ذلك أن الجانبين قطعا شوطاً في تحسين مستوى العلاقة والتفاهم والتعاون بشأن التحديات المرتبطة بالرقمنة، مثل الضرائب العادلة واضطرابات السوق، وخصوصاً أن جزءاً كبيراً من الشركات الرقمية الرائدة هي أميركية، ما خلق حالة تحولت فيها المنطقة الضريبية إلى منطقة حساسة في علاقة الطرفين.

ووسط القلق المتصاعد من سياسات ترامب تجاه أوروبا خلال فترته الرئاسية، اتجه الاتحاد الأوروبي للتركيز على الدبلوماسية مع الصين. وفي أواخر 2020 اتفق مفاوضو الاتحاد الأوروبي مع الجانب الصيني على اتفاقية استثمار شاملة. اليوم يخشى الأوروبيون أن تتعرض كل تلك السياسات الأوروبية، والمصالح الاقتصادية-التجارية، لانتكاسة كبيرة إذا ما عاد ترامب بصحبة نائبه الجديد فانس الذي لا يقل عنه على ما يبدو أنانيةً مع "الأصدقاء الأوروبيين".

المساهمون