باغت المنتجون الرئيسيون للنفط في تحالف "أوبك+" الأسواق بالإعلان عن خفض كبير للإنتاج بشكل طوعي يصل في المجمل إلى 1.64 مليون برميل يومياً، اعتباراً من مايو/أيار المقبل وحتى نهاية العام الجاري، ما يربك حسابات الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية التي تكافح لكبح التضخم الجامح، وسط توقعات بأن يتسبب هذا الخفض في مزيد من التوتر بين واشنطن و"أوبك"، بقيادة السعودية، لا سيما أنه جاء بعد تقليص أكبر للإنتاج بواقع مليوني برميل يومياً منذ نهاية العام الماضي 2022.
وجاء الإعلان عن خفض الإنتاج في إعلانات منفصلة لدول منظمة أوبك، قبل يوم من اجتماع لتحالف "أوبك+"، أمس الاثنين، كانت الأسواق العالمية تتوقع عدم حدوث تغيير كبير خلاله بشأن خريطة الإنتاج، بالنظر إلى التصريحات السابقة من السعودية التي تقود تحالف المنتجين، بأنها ستحافظ على استقرار الإمدادات.
وقفز خام برنت القياسي بنسبة 8.4% إلى أعلى مستوى عند 86.44 دولاراً للبرميل في التعاملات الآسيوية المبكرة، أمس، في حين صعد خام غرب تكساس الوسيط الأميركي بنسبة 8% إلى 81.69 دولاراً للبرميل. لكن المكاسب تقلصت في وقت لاحق من التعاملات، ليدور خام برنت في نطاق 84 دولاراً للبرميل، وخام برنت في حدود 79.7 دولاراً للبرميل. في حين ارتفعت العقود الآجلة للبنزين الأميركي بنسبة 2.3% إلى 2.74 دولار للغالون.
جاءت المكاسب الحادة للنفط الخام، بعد أن أعلنت السعودية، الأحد الماضي، أنها ستنفذ "خفضاً طوعياً" يقترب من 5% من إنتاجها بواقع 500 ألف برميل يومياً، "بالتنسيق مع بعض الدول الأخرى في أوبك وغير الأعضاء في أوبك".
كما أعلن العراق عن خفض 211 ألف برميل يومياً، والإمارات 144 ألف برميل يومياً، والكويت 128 ألف برميل يومياً، وكازاخستان 78 ألف برميل، والجزائر 48 ألف برميل يومياً، وسلطنة عُمان 40 ألف برميل، ليصل إجمالي خفض هذه الدول إلى ما يصل إلى 1.149 مليون برميل. بينما يرتفع إلى 1.649 مليون برميل يومياً، بالنظر إلى الإعلان الروسي السابق بأنها ستمدد خفض إنتاجها الحالي البالغ 500 ألف برميل يومياً حتى نهاية العام.
يأتي خفض الإنتاج وسط حالة من عدم اليقين المتزايدة بشأن آفاق الطلب العالمي على النفط، بعد أن استبعدت الولايات المتحدة علناً مشتريات جديدة من النفط الخام لتجديد مخزونها الاستراتيجي، على الرغم من تعهدها سابقاً للسعودية بأنها ستشتري المزيد من المشتريات إذا انخفضت احتياطياتها.
وذكرت صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية في تقرير، أمس، أن "الخفض المفاجئ للإنتاج، والذي جرى بشكل غير معتاد بالنسبة للكارتل خارج اجتماع أوبك+ الرسمي، من المرجح أن يكون مدفوعاً أيضاً بمخاوف من أن الأزمات الأخيرة في القطاع المصرفي قد تقلل الطلب العالمي على النفط الخام".
بنوك استثمار ترفع توقعاتها للأسعار
رداً على هذه التخفيضات، رفعت بنوك استثمار عالمية توقعاتها لأسعار النفط في الفترة المقبلة، إذ زاد الاقتصاديون في بنك غولدمان ساكس الاستثماري الأميركي توقعاتهم لسعر خام برنت بمقدار 5 دولارات عن توقعات سابقة ليصل إلى 95 دولاراً للبرميل بنهاية العام الجاري. كما عزز البنك توقعاته لنهاية عام 2024 إلى 100 دولار للبرميل.
وقال دان سترويفن، كبير اقتصاديي الطاقة في غولدمان ساكس: "يتمتع أوبك+ بقوة تسعير كبيرة جداً مقارنة بالماضي نظراً لحصته السوقية المرتفعة، وعدم مرونة العرض من خارج أوبك والطلب غير المرن"، مضيفاً أن هذه الخطوة تعكس "خفضاً احترازياً للإنتاج مشابهاً للخفض الذي اتخذته كارتل النفط في أكتوبر/ تشرين الأول 2022"، حيث تقرر خفض الإنتاج مليوني برميل، اعتباراً من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ليعد أكبر خفض منذ إبريل/ نيسان 2020 خلال تفشي جائحة فيروس كورونا.
وأعادت خطوة خفض الإنتاج الأخيرة القلق بشأن الضغوط التضخمية إلى الواجهة، مما زاد من المخاوف من أن ارتفاع الأسعار والتشديد النقدي القوي من قبل البنوك المركزية، يمكن أن يدفع الاقتصاد العالمي إلى الركود.
ووفق بنك غولدمان ساكس، أمس، فإنه: "على عكس ما حدث خلال خفض أوبك+ السابق في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن زخم الطلب العالمي على النفط إيجابي في الوقت الحالي، وسط انتعاش قوي في الصين، وهوامش تكرير مرنة".
وفي مارس/آذار الماضي، قالت وكالة الطاقة الدولية إن "الصين الصاعدة" ستساعد في زيادة الطلب العالمي على النفط بمقدار 3.2 ملايين برميل يومياً خلال العام الجاري، وهي "أكبر زيادة نسبية في عام منذ عام 2010".
وأثار هذا الخفض في الإنتاج انتقاد الولايات المتحدة التي تشهد العلاقات بالأساس بينها وبين أوبك توتراً كبيراً منذ الخفض السابق للإنتاج قبل نحو ستة أشهر. ووصف البيت الأبيض قرار "أوبك+" بأنه غير مستحسن، في ظل ظروف السوق الحالية، مضيفاً أن الولايات المتحدة ستعمل مع المنتجين والمستهلكين لإدارة أسعار البنزين للأميركيين.
وقال فرانسيسكو بلانش، رئيس أبحاث السلع والمشتقات في "بنك أوف أميركا" إن "أي تغيير غير متوقع بمقدار مليون برميل يومياً في ظروف العرض أو الطلب على مدار عام يمكن أن يؤثر على الأسعار بمقدار يتراوح بين 20 دولاراً و25 دولاراً للبرميل".
وأضاف البنك أن "أوبك" لم تعد تخشى ردة فعل كبيرة لإمدادات النفط الصخري الأميركي إذا تجاوزت أسعار خام برنت 80 دولاراً للبرميل. لكنه أشار إلى أنه لا يزال من غير الواضح مقدار التخفيضات الفعلية في حجم الإنتاج، بالنظر إلى أن "أوبك" فشلت تاريخياً في التنفيذ الكامل للتخفيضات المتفق عليها. وحافظ "بنك أوف أميركا" على توقعاته لخام برنت عند مستوى فوق 90 دولاراً للبرميل في النصف الثاني من العام الجاري.
"بنوك مركزية" للنفط
لكن محللون في "سيتي غروب" ومن بينهم إد مورس وفرانشيسكو مارتوتشيا قالوا إن "أوبك+ استعاد منصبه الذي جرى التخلي عنه مؤخراً بأن يصبح محافظ البنوك المركزية للنفط"، مشيراً إلى أنه بالنظر إلى انخفاض أعداد العقود المفتوحة وكذلك التقلبات، يمكن للأسواق أن تتوقع قفزة هائلة للأسعار تماماً مثلما أدى تشديد بنك الاحتياط الفيدرالي والاضطراب المصرفي إلى انخفاض الأسعار قبل أسبوعين بصورة غير متماثلة مع الحدث.
في السياق، لفتت شركة "آر بي سي كابيتال" للاستشارات، إلى أنه يمكن قراءة هذه الخطوة على أنها إشارة إلى أن السعودية وشركاءها في "أوبك" سوف يسعون إلى كبح عمليات البيع المفرطة.
ووفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن دانييل هاينز، كبير محللي السلع في مؤسسة "ايه إن زد غروب هولدينغ"، فإن احتمال الوصول إلى 100 دولار للبرميل قبل نهاية العام "زاد بالتأكيد بعد هذه الإجراءات". وقال: "مثل بقية السوق، فوجئت تماماً بهذه الخطوة.. هذا الإجراء يرسل إشارة قوية جداً إلى السوق بأنهم سيدعمون الأسعار".
وقال فيفيك ضار، مدير سلع الطاقة والتعدين في بنك الكومنولث الأسترالي، إن التخفيضات المعلنة من "أوبك+" ستصل إلى حوالي 1.1% من الإمدادات العالمية في الشهرين المقبلين ونحو 1.6% من الإمدادات العالمية في النصف الثاني من هذا العام، مؤكداً أن الدول الثماني التي تخطط لخفض لإنتاج لديها القدرة على القيام بذلك.
وأضاف "لذلك نحن نتحدث عن مليون برميل يومياً خارج السوق يمكن أن تكون حقيقة واقعة.. يجب أن ينتبه الناس إلى هذه التخفيضات، لأنه يمكن تحقيقها بالفعل".
وذكرت فاندانا هاري، مؤسسة شركة الاستشارات النفطية "فاندا إنسايتس"، ومقرها سنغافورة، أن "هذه الخطوة قد تدفع السوق إلى عجز في الربع الثاني، مقابل التوقعات السابقة بفائض"، مضيفة أن "الأسعار المرتفعة قد تقلص بعض الطلب على النفط الخام، كما تؤدي إلى تفاقم التضخم العنيد الذي تحاول البنوك المركزية مكافحته، مما يزيد من مخاطر الركود".
ووفق محللين في دويتشه بنك الألماني: "سيستغرق الأمر بعض الوقت لنرى بالضبط مدى تأثير هذا على الأسعار العالمية مع استمرار مخاوف الطلب، ولكن هذا عامل محتمل آخر يمارس ضغوطاً تصاعدية على التضخم".
قلق غربي متزايد
ويزداد قلق الحكومات الغربية من أن خفض إنتاج النفط قد يضر الجهود المبذولة لكبح التضخم، الذي تفاقم في الأصل بسبب التوترات الجيوسياسية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية فبراير/ شباط 2022. في المقابل نقلت وكالة الأنباء السعودية "واس" عن مسؤول قوله، إن قرار المملكة خفض الإنتاج جاء "بالتنسيق مع عددٍ من الدول المشاركة في إعلان التعاون من أعضاء منظمة أوبك ومن خارجها"، مضيفاً أن الخطوة "إجراء احترازي يهدف إلى دعم استقرار أسواق البترول".
لكن مايكل هيوسون، كبير محللي السوق في مؤسسة "سي أم سي ماركتس" للخدمات المالية في المملكة المتحدة، قال وفق ما نقلت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، أمس إن: "من غير المرجح أن يتراجع التضخم في أي وقت قريب، قبل حدوث انهيار اقتصادي، ومع إعلان أوبك+ غير المتوقع يمكننا أن نرى تغيراً معاكساً للآثار الاقتصادية الإيجابية الناتجة عن الانخفاض الأخير في أسعار الطاقة".
وفي خطوة للضغط على منظمة "أوبك" والدول المتحالفة معها، أشهرت الولايات المتحدة، الشهر الماضي، سيف ما يعرف بمشروع "نوبك"، والذي يستهدف مقاضاة دول "أوبك" في المحاكم الأميركية، بحجة خرقها قانون الاحتكار.
وأعادت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، طرح مشروع القانون الذي يعاقب منظمة البلدان المصدرة للنفط، على احتكار الإنتاج وتحديد أسعاره، عبر التحكم في كمية إمدادات الخامات البترولية إلى أسواق العالم.
وإذا أقرت اللجنة القضائية ومجلسا الكونغرس مشروع القانون ووقّع عليه الرئيس جو بايدن، فإن "نوبك" سيغير قانون مكافحة الاحتكار في أميركا، ويلغي تبعاً لذلك قانون الحصانة السيادية التي كانت تحمي أعضاء "أوبك" وشركات النفط العالمية المملوكة للدول البترولية من الدعاوى القضائية المتعلقة بتهم احتكار الأسعار.