تواجه أميركا واقعاً كئيباً، هذا ما قاله الرئيس السابق دونالد ترامب في خطاب تنصيبه في 20 يناير/ كانون الثاني 2017، وقال إنه الوحيد القادر على إصلاحه. وبعد 4 سنوات من حكم ترامب، قال الرئيس جو بايدن في خطاب تنصيبه إن أميركا تمر بأوقات مظلمة، وعبّر بكلمات خطيرة عن تمزق نسيج المجتمع، ورسم صورة قاتمة للاقتصاد والقطاع الصحي.
وقال بايدن إن الولايات المتحدة "تعاني"، وإن انتشار الفيروس "يتفاقم"، وزاد عدد الوفيات إلى 440 ألفاً، ما يساوي عدد ضحايا أميركا خلال الحرب العالمية الثانية، وتوقع أن يتجاوز العدد 600 ألف وفاة، و26 مليون إصابة، وقال إن العائلات تعاني الجوع والناس معرضون لخطر إخلاء منازلهم، وخسارة الوظائف ترتفع مجدداً. إنها صورة جديدة لأميركا بعد ترامب.
مجتمع منقسم
العنصرية واللامساواة الاجتماعية والعرقية ضد الأميركان الأصليين والسود والملونين، والتي يفترض أن تكونا قد انتهتا بحكم القانون في منتصف القرن الماضي، لا تزالان موجودتين في المجتمع في التوظيف والإسكان والتعليم والإقراض والمناصب الحكومية. ولم يؤسس ترامب للعنصرية في أميركا، ولكنه نفخ في أساسها الموجود فعلاً، وهناك من يرى أن انتخاب الأميركيين ترامب في عام 2016 رئيساً كان رد فعل عنصرياً ضد انتخاب باراك أوباما أولَ رئيس أسود.
واختيار ترامب مدينة تولسا في ولاية أوكلاهوما مقرا ليعقد أول مؤتمر انتخابي له، في ظل الاحتجاجات التي شهدتها أميركا إثر مقتل جورج فلويد، له رمزية عنصرية عند الأميركيين. فقد كانت مسرحا لأحد أكثر أحداث العنف العنصري دموية في الولايات المتحدة، حيث شهدت مذبحة ارتكبها دعاة سيادة الجنس الأبيض ضد السود عام 1921، وسقط خلالها مئات الضحايا.
ووفق بيانات رسمية، فإن الجماعات العنصرية المتطرفة قامت بأعمال مسلحة في 41 ولاية على الأقل، في الأشهر الستة الأخيرة من حكم ترامب. ومنذ 2015، تحذر المنظمات التي تدرس سلوك الجماعات من تزايد نشاط الجماعات التي تروج العنصرية وكراهية الأجانب ومعاداة السامية وتفوق البيض. وتحاشى ترامب إدانة العنف المنسوب إلى تلك الجماعات العنصرية، واكتفى بإدانة ما اعتبره تخريب المتظاهرين، وليس العنصريين، وامتنع عن التصدي لحالات قتل السود على أيدي ضباط الشرطة البيض.
وتشير المعلومات الواردة من المكتب الفدرالي إلى وقوع ألف حادثة من قبل جماعات عنصرية تندرج تحت خانة الأعمال الإرهابية المحلية، وأن 35 بالمئة من الإرهاب المحلي المسجل بالولايات المتحدة، في السنوات السبع الماضية، مرتبط بجماعات مسلحة من اليمين المتطرف وجماعات تفوق البيض.
وبعض الساسة هناك يرون أن الأميركيين يعيشون في دولتين مختلفتين في الولايات المتحدة، واعترف رئيس حزب الفهود السود الجديد، المدافع عن حقوق السود الذين يمثلون 13.4% من السكان، بأن الأميركيين في عهد ترامب كانوا على وشك الاقتتال في الشوارع بالأسلحة، حيث يمنح الدستور جميع المواطنين الحق في امتلاك السلاح، وقال إن أعضاء الحزب مسلحون في كل مكان، لأن مجموعات بيضاء تحمل السلاح بأعداد كبيرة وتحض على كراهية السود مثل منظمة "كو كلوكس كلان".
وكو كلوكس كلان منظمة عنصرية بيضاء كانت تستهدف الأميركيين الأفارقة في القرن الماضي، ويقال إن أعضاء من الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ ينتمون إليها. ومجموعة اليمين البديل وبرايد بويز لهما نفس النشاط. وفي منتصف عام 2010، اعتبرت وزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفدرالي أن العنف العنصري الأبيض هو التهديد الإرهابي الداخلي الرئيسي في الولايات المتحدة. وفجر مقتل المواطن من أصل أفريقي جورج فلويد، على يد شرطي أبيض جثم على رقبته، موجة احتجاجات ضد العنصرية الموجودة بالفعل.
وهناك حادثة صغيرة، ولكنها تعبر بوضوح طبيعة المجتمع الأميركي الذي يعاني التمييز ونزعة العنصرية، وقعت في مدينة ديترويت الأميركية التي يقطنها أغلبية من السود في يوليو/تموز سنة 2019. فقد قرر منظمو مهرجان موسيقي مضاعفة ثمن التذكرة للأشخاص البيض. ثار جدل واسع حول القرار، ولكن المنظمون برروا القرار بأنهم يريدون إنصاف السود والملونين، لأنه في كثير من الأحيان عندما تنظم نشاطات في ديترويت يشتري أشخاص من خارج هذا المجتمع أرخص التذاكر والسود لا يملكون القدرة المالية.
أميركا منقسمة منذ قامت عرقياً واجتماعياً وأيديولوجياً. وفي خطاب فوزه ما يؤكد ذلك، يقول بايدن: هناك صرخة للعدالة العرقية لم تكف عن النداء مدة 400 عام، وإن على رأس أولوياته إلحاق الهزيمة بنزعة تفوق العرق الأبيض والإرهاب الداخلي والكراهية وسياسة التفرقة التي انتهجها سلفه، واجتثاث العنصرية المنهجية والخلافات القائمة على العرق واللون. قد يحاول بايدن ولكن نجاحه غير مضمون لأن الجرح غائر وقديم.
كورونا يصرع أميركا
وباء كورونا أنهك الاقتصاد وأوقف الإنتاج وضاعف معدلات البطالة وخفض نفقات الاستهلاك، وأدخل الاقتصاد مرحلة الركود بعد انكماش فصلين متتالين، فتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 32.9% على أساس سنوي في الربع الثاني العام الماضي، وفق بيانات وزارة التجارة الأميركية، وهو ثاني انكماش فصلي على التوالي والأسوأ منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. وتراجع الناتج القومي إلى سالب 3.5% في سنة 2020، بحسب تقديرات نشرتها وزارة التجارة، ما يفوق الانكماش الذي وصل إلى 2.5% في سنة 2009 خلال مرحلة الكساد التي تلت الأزمة المالية العالمية.
كورونا والصين والتغيرات المناخية تهديدات حقيقية للعملاق الأميركي. ودون لف ولا دوران، اعترفت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بأن الاقتصاد الأميركي يواجه تحديات وجودية. وقالت إن الصين تقوض الاقتصاد الأميركي بإغراق السوق بالمنتجات الصينية. وهو اعتراف يكشف عن ضعف هذا الاقتصاد أكثر مما يكشف عن قوة الصيني.
وهنا دليل على أن أميركا في عهد بايدن ستستمر في الحرب التجارية مع الصين وقد لا تكسبها، أو ربما تخسرها قبل عام 2030 بسنوات، وهو التاريخ الذي يتوقع أن يتخطى فيه الاقتصاد الصيني نظيره الأميركي. وهناك دراسة حديثة تؤكد أن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم عام 2028، بسبب نجاح الأولى في التعامل مع أزمة كورونا وفشل الأخيرة.
يتناسب مؤشر الإنفاق على الاستهلاك طردياً مع دخول المواطنين، بمعنى أن زيادة الاستهلاك تعني تحسن الدخول والعكس. وفي منتصف العام الماضي، أعلنت وزارة العمل عن تراجع الإنفاق على الاستهلاك بنسبة 34%. وارتفعت البطالة إلى نسبة 6.7%، وهي أعلى من نسبة 3.5% التي سجلت العام الماضي قبل ظهور الوباء، وتزيد 10 أضعاف عن نسبتها خلال الأزمة المالية العالمية في سنة 2008. وطلب 18 مليون أميركي إعانات البطالة. وبذلك نسف كورونا إنجاز ترامب في زيادة فرص العمل. وهو دليل آخر على فتك كورونا بالاقتصاد الأميركي.
عند استلامه الحكم في 2017، وعد ترامب بإلغاء الديون، التي كانت 19 تريليوناً، في غضون ثمانية أعوام، ولكن بعد أربع سنوات، اقتربت من 30 تريليون دولار، وتجاوزت الناتج المحلي قبل المتوقع بثلاث سنوات. وبلغ عجز الميزانية في العام الماضي 3.2 تريليونات دولار، وهو ما يزيد عن ضعفي العجز المسجل في 2019، ويفوق المسجل في الأزمة المالية العالمية في سنة 2009، الذي بلغ 1.4 تريليون دولار، وفق بيان وزارة الخزانة الأميركية.
أما آخر ما يمكن أن يتوقعه أي خبير اقتصادي فهو أن يسبب كورونا أزمة غذائية وربما مجاعة في أميركا. طبعاً ليست كتلك التي تقع في إثيوبيا أو الصومال، وإنما بدرجة لم تشهدها الولايات المتحدة في تاريخها الحديث، وهي أكبر منتج للغذاء في العالم. وقد أقرّ مدير المجلس الاقتصادي الوطني في البيت الأبيض بأن نحو 30 مليون أميركي يعانون من عدم امتلاكهم ما يكفي من الطعام، وأن عائلة من أصل 7 تعاني صعوبات في الحصول على غذاء كافٍ، بمعنى أن 15% من العائلات الأميركية لا تحصل على الغذاء الكافي. ورغم تعهد بايدن بمساعدات غذائية تقارب 2 تريليون دولار، فإن مدير المجلس يقول إنها لن تكون كافية.
أميركا دولة الحروب
لا شك في أن الولايات المتحدة لم تصل إلى هذا القاع بسبب كورونا وحده، ولا بفضل سياسات ترامب وحده، وإنما بتراكم سياسات أسلافه. لكن كيف وصلت الولايات المتحدة إلى هذا الحال البائس؟ وكيف عجزت عن مواجهة فيروس كورونا حتى سحقها؟ وهذا هو السؤال الصعب. الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي يعيش عامه السادس والتسعين، أجاب عن السؤال في إبريل/ نيسان سنة 2019، وقال في درسه الأسبوعي في كنيسة مارانثا، في مسقط رأسه في بلينز بولاية جورجيا، إن ترامب هاتفه بشأن الصين، وأعرب عن قلقه من احتمال تفوقها على الولايات المتحدة بحلول عام 2030.
وقال كارتر إن تقدم الصين على أميركا سببه أنها لم تخض حرباً مع أي دولة منذ سنة 1980، بينما الولايات المتحدة ظلت متورطة في حروب مستمرة مع الدول على مدار 244 عاماً. أما الصين فقد أحرزت تقدماً هائلاً لأنها أنفقت ثروتها في بناء البنية التحتية، أما أميركا فبددت 3 تريليونات دولار على النفقات العسكرية، وتراكمت عليها 6 تريليونات دولار من تكلفة حروبها في العراق وأفغانستان وباكستان ودول أخرى، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001.
وقال إن بلاده غزت أو قصفت عشرات الدول، ودعمت تقريباً كل ديكتاتورية يمينية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأطاحت أو حاولت إطاحة العشرات من الحكومات الأجنبية منذ عام 1949، وسعت بنشاط إلى سحق كل حركة تحرير تقريباً خلال نفس الفترة، وتدخلت في عشرات الانتخابات في دول حليفة ومعادية على حد سواء. هذا باختصار سبب ما آلت إليه أميركا.