أفيدونا يرحمكم الله

02 اغسطس 2023
مصر تعاني من شح النقد الأجنبي (فرانس برس)
+ الخط -

في محاولة لحل الأزمة، وبعد معاناة لعدة أشهر مع عمليات تقييم الشركات واجتذاب المشترين الخليجيين، طرح البنك الأهلي المصري وبنك مصر، أكبر بنكين حكوميين في مصر، الأسبوع الماضي، شهادتي ادخار جديدتين بالدولار مدتهما ثلاث سنوات.

تمنح الشهادة الأولى حائزيها عائداً سنوياً بنسبة 7%؜، ويصرف بالدولار كل 3 أشهر. وتمنح الشهادة الدولارية الثانية عائداً سنوياً 9%، يصرف مقدماً بالمعادل بالجنيه المصري عن الفترة كلها، بواقع 27% من قيمة الشهادة عن إجمالي مدتها، ولا يجوز الاقتراض بضمانها، وتسترد الشهادة في تاريخ الاستحقاق بعملة الدولار ذاتها. وكما هو واضح، يهدف أصحاب الفكرة إلى جذب المزيد من الدولارات إلى النظام المصرفي المصري.

ومن ناحية أخرى، أعلن البنك العربي الأفريقي الدولي، الذي يترأسه حالياً ممثل البنك المركزي في مجلس إدارته، عن طرح شهادة بالجنيه المصري، مدتها ثلاث سنوات، تدفع عائداً مقدماً بنسبة 40% من قيمتها. وسبق أن طرح البنك العربي الأفريقي الدولي، الذي كان حسن عبد الله، محافظ البنك المركزي الحالي، يترأسه قبل عدة سنوات، مطلع العام الحالي، بعد تحرير سعر صرف الجنيه بأسابيع، شهادة ادخار ثلاثية، بعائد يراوح بين 18.5% و19.25%، حسب دورية صرف العائد. وكانت عدة بنوك مصرية، حكومية وخاصة، قد طرحت العديد من الأدوات الادخارية بالجنيه المصري بأسعار فائدة مرتفعة.

وفي حين قال مسؤولو تلك البنوك إن هذه الأوعية استهدفت تعويض حاملي العملة المصرية عن تراجع قيمتها أمام الدولار، رأى خبراء أن الهدف من الخطوة كان الحد من عمليات الدولرة، في وقت تعاني فيه البلاد من تراجع الحصيلة الدولارية، وعدم قدرتها على مواكبة الطلب على العملة الأجنبية للوفاء بالتزامات على الدولة.

ويمثل عرض النوعين من الأدوات الادخارية في الوقت نفسه تخبطاً وتعارضاً كبيرين. فرفع الفائدة على الدولار في مصر يطيح بكل جهود رفع الفائدة على الجنيه، وفقاً للأغراض المعلنة وغير المعلنة، ولا يؤدي إلا إلى ارتفاع كلفة توفير العملتين على البنوك المصدرة، وبالتأكيد على الحكومة المصرية، ومن ثم يزيد الضغوط على ميزانيتها.

ومع وجود بعض المدارس التي يمكن أن تدافع عن الفكرة، يشير رفع الفائدة على العملتين في الوقت نفسه إلى احتمال من اثنين. فإما أن تكون هناك أكثر من جهة تدير السياسة النقدية في البلاد، ومن ثم يتم اتخاذ بعض القرارات المتعارضة على هذا النحو بسبب تمسك كل جهة برأيها، أو أن يكون الغرض هو محاولة جذب الأموال، من العملتين، إلى الجهاز المصرفي، بعد تراجع رغبة المصريين في الاحتفاظ بالعملة المصرية خوفاً من تراجع سعرها أمام الدولار، وأيضاً تراجع ثقة بعضهم في الجهاز المصرفي في ما يخص الاحتفاظ بودائعهم بالدولار فيه.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

تعرضت العديد من الاقتصادات، ومنها اقتصادات كبرى، قبل عقود وخلال الفترة الأخيرة، إلى ظروف مشابهة لما يمر به الاقتصاد المصري، وشهدت عملاتها تراجعاً كبيراً، ومرت في كثير من الأحيان بأزمات سيولة بالعملة الأجنبية كالتي نمر بها في مصر، واضطر بعضها لبيع الأصول المملوكة للحكومة لمستثمرين أجانب، من أجل توفير المبالغ المطلوبة، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة تماماً عما حدث في بلادنا.

لكن أهم ما ميز الخطوات التي اتخذت في البلدان التي نجت من تلك الأزمات كان الشفافية التي تم التعامل بها مع الأزمة، من خلال إطلاع المواطنين على كل الخطوات التي يتم اتخاذها، وعلى كافة أنواع المخاطر المحتملة، وعلى توجهات الحكومة والبنك المركزي للتعامل معها.

وما زلنا نذكر رئيسة وزراء بريطانيا ليز تراس التي فقدت منصبها بعد 45 يوماً فقط بعدما ارتفعت الفائدة على السندات الحكومية وتراجع سعر الجنيه الإسترليني لمستويات غير مشهودة في سنوات.

لا تعلن الحكومة المصرية عن توجهات السياسة النقدية بشفافية، وتكتفي ببيان هزيل بعد كل قرار لم تتمكن من إيجاد من يحسن صياغته بعد ترك وزيرة التعاون الدولي الحالية رانيا المشاط منصبها في البنك المركزي، ولا يتم عقد مؤتمر صحافي يمكن من خلاله توضيح الأمور التي أصبحت شديدة الأهمية في حياة ملايين المصريين بعدما تراجعت مدخراتهم ودخولهم بنحو 50% في أقل من عشرة أشهر.

في أميركا، يتم الإعلان عن قرار البنك الفيدرالي في موعد محدد هو تمام الساعة الثانية ظهراً بتوقيت واشنطن العاصمة، ثم يترك المتعاملون لمدة نصف ساعة لإعادة تقييم حساباتهم، قبل أن يبدأ المؤتمر الصحافي لرئيس البنك في تمام الساعة الثانية والنصف، ويكون بالطبع مذاعاً على الهواء في عدة قنوات، أميركية وأجنبية.

يحترم رئيس البنك، في كل العصور، المواطنين والصحافيين، ولا يستخف بأي سؤال، ويجيب عن كل الأسئلة بمنتهى الدقة والشفافية، ليعرض على المستمعين الوضع المالي الحقيقي للبلاد بكل صراحة. بدأ جيروم باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي، كل مؤتمر صحافي من آخر عشرة مؤتمرات على الأقل بكلمة قصيرة، استهلها بالاعتذار للمواطنين عن ارتفاع الأسعار بسبب الموجة التضخمية التي ضربت البلاد على مدار ما يقرب من عام ونصف، وفعل ذلك في الاجتماع الأخير رغم أن معدل التضخم السنوي في أميركا وصل إلى 3% في أحدث قراءة لمؤشر أسعار المستهلكين.

يجدد باول اعترافه في كل اجتماع بمسؤوليته ورفاقه في مجلس الاحتياط الفيدرالي عما وصل إليه الاقتصاد في البلاد، ويؤكد سعيهم جميعاً لتحقيق هدفي استقرار الأسعار وخلق فرص العمل، بغض النظر عن وجود وباء من عدمه، أو نشوب حروب، قريبة كانت أم بعيدة عن القارة الأميركية.

نحتاج إلى المصارحة من البنك المركزي المصري، وأتمنى أن يعلن رفضه فتح اعتمادات لاستيراد كل ما لا يمثل سلعة ضرورية، ولو فعل ذلك لساهم في الإسراع بتجاوز المحنة الحالية، ولربما ساعد على نشوء وارتقاء صناعات محلية تحل محل الواردات على المديين المتوسط والطويل، وتضع حدا لنزيف العملة الأجنبية لدينا، وإلا فلننتظر مصير لبنان أو سريلانكا، وكلاهما لن يتحمله المصريون.

المساهمون