أسئلة بشأن حجم الخسائر المادية وتكاليف إعادة إعمار درنة الليبية

17 سبتمبر 2023
قضى الفيضان في درنة على ما نسبته 25% من المدينة (رويترز)
+ الخط -

مع تواصل جهود الإنقاذ وانتشال جثث ضحايا إعصار دانيال والفيضان الذي نتج عنه في درنة الليبية وباقي مدن الجبل الأخضر، تغيب إلى الآن أي إحصائيات عن حجم الخسائر المادية، لكن، بشكل عام، فقد قضى على نحو 25% من المدينة وجرفه بالكامل نحو البحر. 

وفي أول حصيلة رسمية غير نهائية، أكد النائب العام الليبي الصديق الصور، خلال مؤتمر صحافي الجمعة، أن 800 مبنى دمّرت نتيجة الفيضان في درنة، غير أن فريق الأزمة التابع لحكومة الوحدة الوطنية أفاد لاحقا بأن مجمل المباني المتضررة حوالي 1500 مبنى، منها 891 دمرت بالكامل، فيما قدّر الفريق الرقعة التي غمرتها المياه بـ6 كليومترات مربعة. 

خسائر واسعة

ويقول الناشط طاهر عفان لـ"العربي الجديد": "هذا لا يعني 891 منزلا، فالحديث عن مبان جلّها مكوّنة من طوابق بين 3 و10، وهو ما يزيد من حجم الخسائر المتوقعة، باستثناء مرافق البلدية التي دمرت تماما لأن الفيضان أتى على وسطها الذي يضم أغلب المؤسسات العامة، وكذلك الأسواق والمحال التجارية والورش والمخازن". 

وقد تضررت الطرق الواصلة بين مدن الجبل الأخضر، إذ ضربت العاصفة مناطق ومدنا أخرى غير درنة، كما أن كل الجسور الرابطة بين ضفتي درنة شرقا وغربا انهارت بالكامل، وتأثرت البنى التحتية في المدينة بشكل كبير، إلى درجة أصبح فيها التحول من ضفة إلى أخرى يتطلب السير مسافة 150 كيلومترا حول الوادي والجبل.

وقبل السيل الكبير، اقتلعت عواصف الإعصار أبراج وأعمدة كهرباء وإضاءة، وكذلك أبراج اتصالات في أجزاء كبيرة من الجبل الأخضر عموما، وتكفلت السيول بإيقاع خسائر كبيرة في محولات الكهرباء، ولوثت، بسبب ما جرفته من جثث بشر وحيوانات ومياه صرف صحي، المياهَ الجوفية في درنة، ما دفع وزارة الصحة في الحكومة المكلفة من مجلس النواب إلى مناشدة السكان والمنقذين عدم شرب مياه آبار المنطقة، وحصر استخدامها في التنظيف "في أحسن الأحوال". 

وفي شكل آخر للخسائر، يضيف عفان أن "الميناء تضرر أيضا، إذ سحبت نحوه آلاف الأطنان من أنقاض العمارات المنهارة، وكذلك الأشجار المقتلعة والسيارات، وكل ما كان في طريق السيول، ما أثر على عمق المياه في الميناء، الأمر الذي يضرّ بأمن الرسو فيه. وفي حالته هذه، لن يستوعب السفن الكبيرة". 

وتشكل السدود تحديا آخر أمام عودة الحياة في درنة، فقد انهار سدّا وادي درنة اللذان يفصلان المدينة عن المياه المنحدرة من سفوح الجبل، وكان انهيار السدين المتسبب الرئيسي في اختفاء أحياء كاملة من خريطة المدينة المشيدة أساسا على ضفتي الوادي الشرقية والغربية، ما يثير المخاوف بشأن مدى أمانها وهي تنتظر موسم الشتاء الممطر في عموم الجبل الأخضر. 

وتدفع هذه الحقائق عن حجم الدمار إلى طرح مجموعة أسئلة، في مقدمتها تكلفة إعادة البناء، خاصة أن المدينة كانت تحتاج، حتى قبل الإعصار، تأهيلا، ولو بدرجة أقل. فمنذ التسعينيات، تعرضت المدينة لأنواع مختلفة الأسباب من التخريب.

ولم تصدر في الوقت الراهن أي تقديرات حكومية لحجم الخسائر المادية في درنة وعموم الجبل، أو تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على وضع الاقتصاد في الدولة النفطية المنقسمة منذ عام 2014. 

وعدا عن المعونات الدولية التي وصلت إلى ليبيا من دول كثيرة، ومساعي مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة لجمع 71 مليونا كمساعدة فورية، فقد أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس عبد الحميد الدبيبة، الثلاثاء، عن تخصيص ملياري دينار (446.4 مليون دولار) لصالح صندوق إعمار مدينتي بنغازي ودرنة، ونصف مليار دينار لصالح البلديات المتضررة.

كما صوّت مجلس النواب، يوم الخميس الماضي، على إقرار ميزانية طوارئ بقيمة 10 مليارات دينار ليبي لمعالجة آثار الفيضانات في المناطق المتضررة، وشكل لجنة يقودها رئيس مجلس النواب، وتضم محافظ مصرف ليبيا المركزي، ومندوبا عن القيادة العامة للقوات المسلحة يختاره الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، على أن تتولى فتح حساب في مصرف ليبيا المركزي تودع فيه المخصصات أو المعونات المحلية والدولية، والإشراف على صرفها للأغراض المخصصة لها. 

وكلّف مجلس النواب لجنته التشريعية لإعداد مشروع قانون إنشاء صندوق إعمار ليبيا، يُعرض على المجلس في الجلسات القادمة لاعتماده.

وعقب ذلك، اجتمع نواب المناطق المتضررة من الدائرتين الأولى والثانية في مجلس النواب الليبي، وجرى الاتفاق على تقديم مقترح بإنشاء جهاز لإعادة تأهيل وإعمار المناطق المتضررة بفعل الإعصار، على أن ينشأ هذا الجهاز بموجب قانون، وتكون تبعيته لمجلس الوزراء، ويموّل مما يخصص له من ميزانية الدولة وما يودع في حساب المساعدات الدولية بمصرف ليبيا المركزي. 

يذكر أنها ليست المرة الأولى التي ينشأ فيها صندوق مشابه، فقد شكلت حكومة الوحدة الوطنية، في مايو/أيار 2021، صندوقاً لإعادة إعمار مدينتي بنغازي ودرنة، بذمة مالية مستقلة قدرت بـ335 مليون دولار، بما يعادل 1.5 مليار دينار ليبي، بحسب تقديرات الحكومة وقت إنشاء الصندوق. 

وبحسب القرار، يهدف الصندوق إلى "إعادة وتأهيل المناطق التي دمرتها الحروب وإزالة آثارها بمدينتي بنغازي ودرنة، بما يحقق الأهداف التنموية ومعالجة الأضرار الحاصلة في المباني والبنى التحتية". 

الاستعانة بمؤسسات دولية

ويصف أستاذ التمويل ومؤسس سوق المال الليبية سليمان الشحومي ما حصل بـ"الكارثة الكبيرة"، ويقدّر أن هذه الظروف لم تشهد ليبيا مثيلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهاء الاحتلال الإيطالي. 

وفي تصريح لـ"العربي الجديد"، قدّر الشحومي أن "إعادة إعمار درنة والمناطق المتضررة الأخرى تحتاج لمشروع قومي كبير"، وتوقع أن "يفوق التدخل في المدينة المبالغ المرصودة من مجلس النواب وحكومة طرابلس"، معلقا: "هذا مشروع طويل قد يستغرق 3 إلى 5 سنوات كمشروع وطني شامل لإعادة الإعمار. وربما تتجاوز تكلفته 5 مليارات دولار بشكل مبدئي". 

و"الاستفسار الوجيه"، حسب رؤية الشحومي، وفي ظل الانقسام الحكومي، هو "عمّن سيتولى إعادة الإعمار"، مشددا في السياق: "إذا أوكلت إعادة الإعمار للمؤسسات القائمة، سواء كان صندوق إعمار درنة وبنغازي، أو غيره من الصناديق المحلية، ربما لن نرى مشروعا حقيقيا".

وأضاف أن "الأسباب قد تعود لنقص الخبرة والدراية بقضايا الإعمار، خصوصا أن هذه القضايا تتطلب الربط مع معطيات ومتطلبات، مثل الحفاظ على البيئة، والتنمية المجتمعية والعمرانية، وقضايا تطوير النشاط الاقتصادي في البيئة المحيطة".

كما أن ذلك، وفقا للشحومي، يحتاج إلى "قدرات وإمكانيات في البناء والتخطيط والإشراف تتجاوز المتوفر محليا، خصوصا أن المؤسسات الحكومية الليبية تعتبر فاشلة وغير قادرة على القيام بأدوارها، وينخرها كثير من الفساد بسبب ضعف الرقابة والانقسام السياسي في المؤسسات". وتحدث عن سبب آخر، تمثّل في "وجود تجرؤ كبير جدا على المال العام في ليبيا، وبالتالي في تقديري مثل هذا المشروع للإعمار يحتاج خبرات دولية". 

ووفق رؤية أستاذ التمويل، وعند توفر الموارد المالية، "بالإمكان الاستعانة بالبنك الدولي". 

ويكمل الشحومي بقوله: "أعتقد أنه بالإمكان توفير مخصصات مالية مهمة جدا، ووضعها تحت إطار مجلس للإعمار الليبي، بمشاركة وإشراف البنك الدولي، للاستفادة من خبرته الكبيرة في مشاريع الإعمار ومشاريع التطوير وإعادة هيكلة البيئة المحيطة والمستهدفات الحضارية والتنموية"، واعتبر أن ذلك "سيكون فرصة لإعادة التنمية الاقتصادية والمجتمعية، وتحسين قدرات السكان على المساهمة الاقتصادية في المناطق المتضررة". 

ويضيف الشحومي أنه "من الممكن الاستفادة من خبرة مؤسسات دولية في تحسين الشفافية وإدارة مشروعات الإعمار، وبالتالي يمكن أن نخرج بمشروع إعمار يحقق مستهدفات مهمة جدا في المدى القصير".

أزمتا الفساد والانقسام

وأشار الخبير الليبي إلى أن ذلك "سيخرج ليبيا من مسألة التعقيدات الموجودة وشبهات الفساد، ويساعد حتى في بناء كوادر محلية وطنية ستكتسب الخبرة من المؤسسات الدولية. وسيساعد أيضا في مشاركة الشركات المختصة في مجال الإعمار مع الشركات الوطنية، بما يفتح فرصة لاكتساب الخبرات". 

وأستدرك الشحومي: "لقد شهدنا ما قامت به كثير من الشركات الوطنية خلال الفترة الماضية من مشاريع البناء والطرق التي تفتقر إلى كثير من الضوابط والمعايير، بالتالي لا توجد ثقة بما هو متوفر محليا"، مؤكدا أن "الاستفادة من المشاريع الدولية ليست تدخلا في الشأن السياسي، بل مسألة إدارة للمشروعات الكبيرة، واستراتيجية نحتاجها في الأزمة الحالية". 

ويرفض الشحومي بعض الآراء المطالبة بتشكيل لجنة دولية لإدارة أزمة تداعيات الإعصار، ويرى في المقابل "إمكانية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإعمار، أو البنك الأوروبي للتنمية"، وكل ذلك "بعد تشكيل مجلس ليبي للإعمار يتكون من خبراء مستقلين لا يتبعون أو يمثلون أي حكومة، ويتمتعون بالكفاءة والمهنية. أما ترك الأمور لمؤسسات محلية، فسيزيد الطين بلة"، وفقا لتعبيره. 

ويتوقع الشحومي تأثيرات سلبية للانقسام الحكومي على إعادة الإعمار، حين يقول: "رأينا حكومتين كل منهما تدّعي أنها من تقوم بالدور الأبرز والأهم في مسألة الإغاثة والإنفاق على إعادة الإعمار، وسط تضارب وعبث مالي، وفي غياب إطار مالي منظم. وهذا سيربك الكثير من عمليات إعادة الإعمار". وأشار إلى أن "البنك المركزي يمكن أن يقع تحت ضغط الاستجابة لهذه الطلبات"، وحذر من "الفساد في ظل الانقسام". 

ويختم الشحومي قائلا إن "ليبيا بحاجة للخروج من هذا الوضع، وفي حاجة للتوجه نحو الانتخابات بأسرع ما يمكن لإقرار وإعادة بناء الدولة وإيجاد حكومة واحدة يمكن أن تقود مشروعا وطنيا لسنوات قادمة، في ظل دولة موحدة ومؤسسات تشريعية وحكومة هدفها الأساسي إعادة الإعمار خلال الفترة القادمة، وبناء مستقبلها من جديد". 

المساهمون