أزمة الودائع اللبنانيّة: الحلول موجودة لكنها معطّلة

20 فبراير 2023
من احتجاج ضد سياسات مصرف لبنان المركزي (حسين بيضون)
+ الخط -

أنهى لبنان العام 2022 دون أن تظهر في الأفق أي بداية لمسار حل شامل، ينهي الأزمة التي يمر بها القطاع المالي منذ العام 2019. في المقابل، تشير أرقام الميزانيّات المصرفيّة، التي تم الإعلان عنها في أواخر العام الماضي، إلى أنّ خسائر أصحاب الودائع المصرفيّة باتت تتعاظم مع مرور الوقت، ما يدل على أنّ الوقت الضائع أصبح مكلفًا على جميع الصعد.

فبحلول نهاية شهر ديسمبر/كانون الأوّل الماضي، كانت قيمة الودائع المصرفيّة المتبقية بالعملة الصعبة تقارب حدود 94.53 مليار دولار، وهو ما يوازي نحو 4.4 مرّات قيمة الناتج المحلّي اللبناني بأسره.

مع الإشارة إلى أنّ أكثر من 77% من قيمة هذه الودائع المتبقية تعود إلى مقيمين داخل البلاد، بقيمة إجماليّة توازي نحو 73.15 مليار دولار. وهذا تحديدًا ما يربط أزمة الودائع المصرفيّة بقيمة مدخرات المقيمين وتعويضات نهاية خدمتهم، بالإضافة إلى أموال صناديق النقابات التقاعديّة والتعاضديّة المودعة في المصارف المحليّة.

حلول نهاية ديسمبر/كانون الأوّل الماضي، كانت قيمة الودائع المصرفيّة المتبقية بالعملة الصعبة تقارب حدود 94.53 مليار دولار

أهم ما في الموضوع هو أنّ قيمة هذه الودائع، وبالعملات الأجنبيّة تحديدًا، كانت تبلغ نحو 123.29 مليار دولار في شهر أغسطس/آب من العام 2019، أي قبيل حصول الانهيار المصرفي، وفرض القيود على السحوبات والتحويلات في المصارف اللبنانيّة. وهذا ما يعني أنّ قيمة الودائع بالعملة الصعبة تراجعت بنحو 28.76 مليار دولار، أي بنسبة تتجاوز 30% من قيمتها الأساسيّة، خلال سنوات الأزمة المصرفيّة.

هذا التراجع في قيمة الودائع، نتج إجمالًا عن سعي نسبة كبيرة من المودعين للتخلّص من حساباتهم المصرفيّة، إمّا عبر سحبها بالليرة اللبنانيّة، بأسعار صرف لم تتجاوز في كثير من الأحيان 15% من سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية، أو عبر بيع الشيكات المصرفيّة للمقترضين، بحسومات تصل إلى أكثر من 83% من قيمة الشيكات الفعليّة.

موقف
التحديثات الحية

وبينما ساهمت هذه العمليّات في تصفية جزء وازن من التزامات المصارف للمودعين، إلا أنّها حملت أصحاب الودائع -بمختلف شرائحهم وقيمة ومصدر ودائعهم- اقتطاعات غير منطقيّة من قيمة ودائعهم الأصليّة. وهذا تحديدًا ما تحوّل خلال السنوات الماضية إلى أحد أشكال توزيع الخسائر، الذي فُرض على المودعين بحكم الأمر الواقع، من خارج أي خطّة رسميّة عادلة ومتكاملة للتعامل مع تداعيات الأزمة.

في المقابل، ومن جهة المصرف المركزي، تشير أرقام المصرف الأخيرة إلى أنّ حجم احتياطاته من العملات الأجنبيّة تدنّى في منتصف الشهر الحالي إلى ما دون 10 مليارات دولار، في حين أن حجم هذه الاحتياطات تجاوز حدود 30.6 مليار دولار في نهاية أغسطس 2019. مع الإشارة إلى أنّ هذه الاحتياطات تمثّل آخر ما تبقى من دولارات المودعين، التي قامت المصارف اللبنانيّة بتوظيفها لدى المصرف المركزي.

تشير أرقام المصرف الأخيرة إلى أنّ حجم احتياطاته من العملات الأجنبيّة تدنّى في منتصف الشهر الحالي إلى ما دون 10 مليارات دولار

وبهذه الصورة، يكون المصرف المركزي قد خسر خلال سنوات الأزمة الأخيرة أكثر من 20.6 مليار دولار، من أموال المودعين الموجودة لديه. ومن المعلوم أن هذه الخسائر نتجت بشكل أساسي عن تعدد أسعار الصرف خلال المرحلة الماضية، وانخراط المصرف في تمويل عمليّات استيراد السلع الأساسيّة بأسعار صرف مدعومة تقل عن سعر الصرف الرائج في السوق الموازية.

كما نتجت هذه الخسائر أيضًا عن استمرار المصرف بتمويل عقود الدولة بالعملات الأجنبيّة وعمليّات ضخ الدولار في السوق، من خلال المنصّة التي استحدثها للتداول بالعملات الأجنبيّة.

خلال العام الماضي وحده، انخفض صافي الموجودات الخارجيّة، أي صافي الأصول والالتزامات المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، لدى المصرف المركزي بنحو 3 مليارات دولار، في إشارة واضحة إلى الاستنزاف المستمر في ميزانيّته، رغم توقّفه عن تمويل عمليّات استيراد المحروقات والمواد الغذائيّة قبل بدء العام 2022.

ومن الناحية العمليّة، تملك المصارف أيضًا مجموعة من الحسابات لدى المصارف الأجنبيّة المراسلة، التي تستعملها لتمويل التحويلات إلى الخارج. إلا أنّ قيمة هذه الحسابات تراجعت بدورها من نحو 10.33 مليارات دولار في أغسطس 2019، إلى 4.31 مليارات دولار فقط في نهاية العام الماضي، ما أفقد هذه الحسابات أكثر من 6 مليارات دولار من قيمتها. وهذا التراجع نتج بدوره عن استمرار المصارف بسداد بعض التزاماتها في الخارج، بغياب أي تدفّقات ماليّة جديدة باتجاه النظام المالي.

في النتيجة، وكما هو واضح اليوم، سيؤدّي كل تراجع في قيمة احتياطات المصرف المركزي وحسابات المصارف اللبنانيّة في الخارج، إلى استنزاف ما تبقى من أموال المودعين في النظام المالي، وهو ما يعني عمليًّا خسارة القيمة التي يمكن ضمانها من كل وديعة مصرفيّة.

في الأشهر الأولى من العام 2022، قدّرت خطّة التعافي المالي التي عملت عليها الحكومة اللبنانيّة، أن يتجاوز حجم الفجوة في ميزانيّات القطاع المالي حدود 73 مليار دولار.

سيؤدّي كل تراجع في قيمة احتياطات المصرف المركزي وحسابات المصارف في الخارج، إلى استنزاف ما تبقى من أموال المودعين

ومن المفترض أن تمثّل هذه الفجوة الفارق بين إجمالي التزامات القطاع المصرفي للمودعين، وما تبقّى من احتياطات في المصرف المركزي وحسابات المصارف في المصارف المراسلة، بالإضافة إلى بعض الأصول الاستثماريّة التي تملكها المصارف على شكل فروع ومصارف تابعة لها في الخارج.

حجم الخسائر هذا، يوازي بحد ذاته نحو 3.5 مرّات حجم الناتج المحلّي اللبناني بأسره، كما يوازي 78% من قيمة الودائع المتبقية في النظام المصرفي.

ورغم ضخامة هذا الرقم، قياسًا بحجم الاقتصاد، من الأكيد أن حجم هذه الخسائر ارتفع بما لا يقل عن 3 مليارات دولار منذ أن أعلنت الحكومة عن هذا الرقم، في بداية العام الماضي، إذ إنّ استنزاف المزيد من احتياطات المصرف المركزي، سيعني تلقائيًا زيادة حجم الخسائر المحققة من أموال المودعين في النظام المصرفي.

رغم سوداويّة هذا المشهد، من المهم الإشارة إلى أنّ أرقام الحكومة نفسها أشارت إلى أنّ ما تبقى من سيولة في القطاع المصرفي، بعد احتساب حجم الخسائر، يكفي لضمان كل وديعة لحدود 100 ألف دولار، وهو ما يكفي وحده لسداد التزامات المصارف لأكثر من 85% من مجموع الحسابات المصرفيّة. فمن المعلوم أن تركّز قيمة الودائع في عدد صغير من الحسابات المصرفيّة يسمح اليوم بسداد الغالبيّة العظمى من الودائع، بمجرّد اعتماد فكرة ضمان حد معيّن من كل وديعة.

أمّا في ما يخص كبار المودعين، فيمكن لخطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي أن تأخذ بعين الاعتبار تراتبيّة معيّنة لتوزيع الخسائر، وفقًا لمصدر هذه الودائع ومشروعيّتها واستفادتها من أرباح المراحل السابقة، وبعد تحميل الشريحة الأولى من الخسائر كما تفرض المعايير الدوليّة لرساميل المساهمين في القطاع.

وهذا المسار، يفترض أن يشمل طبعًا عمليّة إعادة رسملة شاملة للمصارف، بعد دخول مساهمين جدد، وبعد دخول المصارف في مسار طويل من الدمج والاستحواذ.

في ما يخص كبار المودعين، فيمكن لخطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي أن تأخذ بعين الاعتبار تراتبيّة معيّنة لتوزيع الخسائر

منذ إقرار خطّة التعافي المالي بالتفاهم مع صندوق النقد، في شهر مايو/أيّار الماضي، لم يدخل تطبيقها حيّز التنفيذ، كما لم يتم العمل على أي مسار بديل لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهو ما أبقى الأزمة المصرفيّة على حالها منذ ذلك الوقت. وبذلك، تكرّر سيناريو عرقلة الحلول المطروحة على الطاولة، دون طرح أي حلول مختلفة، تمامًا كما جرى عام 2020.

ولعلّ السبب الأساسي يكمن في درجة التشابك بين مصالح كبار النافذين في النظام السياسي، وكبار المصرفيين الذين لا يملكون المصلحة الفعليّة في الدخول في مسار إعادة هيكلة شاملة للقطاع المصرفي. فهؤلاء بالتحديد، يعلمون جيّدًا أن رساميلهم يفترض أن تكون أوّل من يدفع ثمن الخسائر المحققة في القطاع.

المساهمون