يبدو أن أزمة الطاقة الحادة التي تكابدها القارة العجوز بنتيجة تداعيات حرب أوكرانيا في طريقها إلى تشكيل نظام أوروبي جديد قوامه اقتصاد إيطالي قوي اتسم بذكاء دبلوماسي في التعاطي مع نقص مواد الطاقة، وآخر ألماني لا يخلو من الضعف في الاستجابة للأزمة. فماذا في التفاصيل؟
ففي الأسابيع التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط، شرع الرئيس التنفيذي لشركة "إيني" الإيطالية العملاقة للطاقة كلاوديو ديسكالزي، في القيام برحلات مكوكية إلى موردي الغاز في أفريقيا.
وتخلل زيارات ديسكالزي عقد اجتماعات مع مسؤولين جزائريين في فبراير/شباط، إضافة إلى محادثات في أنغولا ومصر وجمهورية الكونغو في مارس/آذار، وغالبا ما اصطحب معه كبار المسؤولين في روما، وفقا لبيانات صادرة عن الشركة والحكومة.
وبنتيجة حراكها، استفادت "إيني"، وبالتالي وإيطاليا، من علاقات التوريد الحالية مع تلك الدول لتأمين غاز إضافي لاستبدال جزء كبير من الكميات التي تلقتها من أكبر مورديها الروس.
وهذا ما رأى فيه مراقبون تحولا ذكيا عجزت العديد من الدول الأوروبية عن أدائه، ما يعني أن الحرب التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا بدأت عمليا تدفع القارة الأوروبية إلى واقع بديل عن المعتاد.
فألمانيا، على سبيل المثال، هي كقوة اقتصادية لطالما كانت نموذجا مثاليا للتخطيط الحكيم، وقعت الآن في فخ أزمة الطاقة وتبدو غير مستعدة لها على الإطلاق. إنها على شفا الركود، وتستعد لتقنين استهلاك الغاز والطاقة، وقد لجأت للتو إلى تأميم مرفق رئيسي.
في المقابل، تبدو إيطاليا، وهي على دراية بالأزمات الاقتصادية، مرنة نسبيا. فقد أمّنت إمدادات إضافية وهي واثقة من أنها لن تحتاج إلى ترشيد استهلاك الغاز، حيث أشادت حكومتها بالأمة باعتبارها "الأفضل في أوروبا" في ما يتعلق بأمن الطاقة.
في السياق، وزير الصناعة الإيطالي السابق وعضو مجلس الإدارة السابق في "إيني" ألبرتو كلو، يقول إن "التقدير الذي يتمتع به ديسكالزي في العديد من البلدان الأفريقية هو بالتأكيد ميزة تنافسية"، مشيرا إلى صعوبات توقيع الصفقات أثناء أزمة الإمداد.
لكن في الواقع، يجد البلدان نفسيهما في ظروف متناقضة حيث يتفاوت عبء أزمة الطاقة الشديدة عبر دول القارة، نتيجة تباين اعتمادها على الغاز الروسي على نطاق واسع.
ويواجه جزء كبير من المنطقة أزمة إمدادات شتوية، مع تعرضها بشدة لنتائج الأزمة، مثل ألمانيا والمجر والنمسا. وتشمل الدول الأقل تضررا فرنسا والسويد وبريطانيا، التي لم تعتمد تقليديا على روسيا، وكذلك إيطاليا.
حول هذه النقطة، يقول المتخصص في النفط والغاز لدى شركة الأبحاث "وود ماكينزي" مارتيجين ميرفي إنه على الرغم من أن إيطاليا تعتبر روسيا منذ فترة طويلة أكبر مزود للغاز، إلا أن تنوعها الكبير في الموردين وعلاقاتها الطويلة الأمد مع أفريقيا تعني أنها في وضع أفضل لتحمل وقف الإمدادات الروسية.
ويقول: "تتمتع إيني بعلاقات قوية للغاية مع جميع البلدان التي تعمل معها في شمال أفريقيا وهي موجودة في كل من الجزائر وتونس وليبيا ومصر وتُعد أكبر مستثمر في المنبع وشركة نفط دولية".
وقد أجبرت أزمة القوة التي أنتجتها الحرب الحكومات على مواجهة مخاطر الاعتماد المفرط على مورد أو منطقة مهيمنة. وهي لا تزال تسمع أصداء أزمة الطاقة في السبعينيات التي أدت إلى إعادة التفكير في اعتماد الغرب على نفط الشرق الأوسط، وهو التحول الذي حفز عمليات التنقيب العالمية والبحث عن موردين بديلين، مثل فنزويلا والمكسيك.
وامتنعت الحكومة الإيطالية عن التعليق، فيما قالت وزارة الاقتصاد الألمانية إنها تريد الابتعاد عن واردات الغاز الروسي بأسرع ما يمكن وتنويع إمداداتها، مستشهدة بخطوات مبكرة نحو ذلك مثل تأجير 5 محطات عائمة للغاز الطبيعي المسال، علما أنه لا توجد في ألمانيا حاليا محطات من هذا النوع، في حين أن إيطاليا لديها 3 محطات تعمل واشترت أخيرا محطتين أُخريين.
قصة اثنين من المشترين
استهلكت إيطاليا 29 مليار متر مكعب من الغاز الروسي العام الماضي، تمثل نحو 40% من وارداتها. وقالت "إيني" إنها تحل تدريجا محل حوالي 10.5 مليارات متر مكعب من هذه الكمية عبر زيادة الواردات من دول أخرى ابتداء من هذا الشتاء.
وسيأتي معظم الغاز الإضافي من الجزائر التي قالت في 21 سبتمبر/أيلول إنها ستزيد إجمالي الشحنات إلى إيطاليا بنحو 20% لتصبح 25.2 مليار متر مكعب هذا العام. وهذا يعني أنها ستصبح أكبر مورد لإيطاليا، وتوفر نحو 35% من الواردات. وقال ديسكالزي هذا الأسبوع إن حصة روسيا انخفضت في غضون ذلك إلى مستويات منخفضة للغاية.
وقالت "إيني" إنه اعتبارا من ربيع 2023، سيبدأ تدفق متزايد للغاز الطبيعي المسال من دول، بينها مصر وقطر والكونغو ونيجيريا وأنغولا، ما يسمح لإيطاليا باستبدال 4 مليارات متر مكعب أُخرى من الغاز الروسي.
أما ألمانيا التي شكلت 58 مليار متر مكعب من الغاز الروسي المستورد 58% من استهلاكها العام الماضي، فقد عانت من تناقص الإمدادات عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" منذ يونيو/حزيران إلى أن توقفت تماما في أغسطس/آب المنصرم.
ونظرا لعجزها عن تأمين إمدادات بديلة طويلة الأجل من بلدان أخرى، وعدم وجود شركة نفط وغاز وطنية رئيسية مع إنتاج في الخارج، اضطرت ألمانيا للذهاب إلى السوق الفوري، أو النقد، حيث كان عليها دفع حوالي 8 أضعاف الأسعار المسجلة قبل عام من أجل التعويض من نقص الغاز الروسي.
ويمكن لعوامل خارجة عن السيطرة البشرية أيضا أن تهدد أمن الطاقة. إذ لا تتمتع ألمانيا بقرب إيطاليا من شمال أفريقيا، على سبيل المثال، أو ثروات بريطانيا وبحر الشمال في النرويج. كما ليست لديها احتياطيات نفط أو غاز كبيرة.
أخطاء مسؤولي ألمانيا فاقمت أزمة الطاقة فيها
ومع ذلك، فإن المسؤولين والمديرين التنفيذيين الألمان ارتكبوا أخطاء في حساباتهم خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ما يشير إلى أن الأزمة الحالية كان من الممكن أن تتحول بشكل مختلف.
وفي عام 2006، كانت إيطاليا هي الأسرع في مواجهة الغاز الروسي، حيث وافقت "إيني" -أكبر مستورد للغاز في البلاد- في ذلك الوقت، على أكبر صفقة غاز على الإطلاق بين شركة أوروبية مع شركة الطاقة العملاقة "غازبروم" التي تسيطر عليها موسكو.
وفي السنوات الثماني الماضية، تباعدت سياسة برلين وروما على نحو لافت، حيث ضاعفت ألمانيا من واردات الغاز الروسي وأصبحت تعتمد بشكل متزايد عليه، في حين سعت إيطاليا للتحوّط في رهاناتها.
وبدأت إيطاليا في رسم مسار مختلف عام 2014، عندما حلت حكومة جديدة محل حكومة سيلفيو برلسكوني، الذي كان صديقا قديما لبوتين، وتولى ديسكالزي رئاسة "إيني"، وفقا لثلاثة مصادر مطلعة على استراتيجية الطاقة في البلاد.
وقال أحد المصادر إن ديسكالزي، المتخصص في التنقيب والإنتاج الذي أشرف على مشاريع في أماكن مثل ليبيا ونيجيريا والكونغو، ركز على ما يعرفه بشكل أفضل: استكشاف أفريقيا.
وتحقق نجاح كبير في مصر عام 2015، عندما اكتشفت "إيني" حقل غاز ظهر في البحر الأبيض المتوسط. وأضاف المصدر أنه بينما دفع ديسكالزي "إيني" إلى المسار السريع للمشاريع، تمكنت "إيني" من بدء الإنتاج في هذا الحقل خلال أقل من عامين ونصف، وهو تطور سريع نسبيا في الصناعة.
وفي الجزائر، حيث توجد "إيني" منذ عام 1981، أبرمت الشركة عام 2019 صفقة لتجديد واردات الغاز حتى عام 2027.
العقوبات بعد أزمة القرم عام 2014
وشكل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، والعقوبات الغربية التي تلت ذلك، لحظة فاصلة.
فقد سحبت روما دعمها لمشروع "غازبروم" الجنوبي البالغة كلفته 40 مليار دولار، والذي كان يهدف إلى نقل الغاز من روسيا إلى المجر والنمسا وإيطاليا مع تجاوز أوكرانيا، وذلك أيضا استجابة للعقوبات. وتخلت "إيني" عن المشروع في وقت لاحق من ذلك العام، قبل أن توقفه موسكو.
وبدلا من ذلك، حولت إيطاليا أنظارها إلى إنشاء خط أنابيب أصغر عبر البحر الأدرياتيكي من أذربيجان عبر اليونان وألبانيا. لكن ألمانيا لم تقلص اعتمادها على الغاز الروسي.
الرئيس التنفيذي لشركة "إي.أون" E.ON آنذاك يوهانس تيسين قال: "لقد أقامت أوروبا وروسيا شراكة في مجال الطاقة على مدى 4 عقود، ولم يكن هناك يوم واحد في ذلك الوقت تم فيه استخدام الغاز كسلاح استراتيجي ضد الغرب"، إلا في عام 2014 في أعقاب الضم.
وعلاوة على ذلك، أُبرمت اتفاقية عام 2015 بين "غازبروم" وشركات، منها "إي.أون" و"ونترشال" Wintershall الألمانيتان لتشكيل اتحاد لبناء خط أنابيب "نورد ستريم 2".
لقد صُدمت ألمانيا مرة أخرى. فقبل يوم واحد من غزو موسكو أوكرانيا، وصف كلاوس ديتر ماوباتش، الرئيس التنفيذي لشركة "يونيبر" Uniper، أكبر مستورد للغاز الروسي في ألمانيا، شركة "غازبروم" بأنها مورّد جدير بالثقة.
لكنه ما لبث أن غيّر رأيه منذ ذلك الحين. فبعد 7 أشهر، تستعد "يونيبر" لمقاضاة "غازبروم" طلبا للتعويض عن الأضرار الناجمة عن خفض الإمدادات، وقد تم إنقاذها بمبلغ 29 مليار يورو (28 مليار دولار) من قبل الحكومة الألمانية، التي وافقت في سبتمبر/أيلول على تأميم الشركة. (الدولار = 1.0218 يورو).
وتهدف ألمانيا إلى استبدال الغاز الروسي بالكامل بحلول منتصف عام 2024 رغم أن بعض المرافق، بما في ذلك أكبر شركة منتجة للطاقة "أر دبليو إي" RWE، تعتقد أن الأمر قد يستغرق وقتا أطول من ذلك، نظرا لندرة المصادر البديلة وصعوبة الحصول على كميات كبيرة. ويتفق الجميع على أنه سيكون مسعى مكلفا.
في هذا الإطار، قال المستشار الألماني أولاف شولتز في يونيو/حزيران: "لقد اعتمدنا لفترة طويلة جدا وبشكل كبير جدا على إمدادات الطاقة من روسيا، لكن المعادلة القديمة بأن روسيا شريك اقتصادي موثوق به حتى في الأزمات لم تعد صالحة".
(رويترز، العربي الجديد)