لأن التاريخ هو معمل العلوم الاجتماعية، فأقوى أسانيد المؤمنين بقرب نهاية هيمنة الدولار هي الحقائق المُستمدة من التاريخ، وتأتي على رأسها في هذا السياق حقيقة تشابه وضع المديونية الأميركية الحالي مع وضع المديونية البريطانية أوائل القرن العشرين، والتي مهّدت الطريق مع أعباء الحرب العالمية الأولى لنهاية الهيمنة الدولية للجنيه الإسترليني.
كذا، بذات المحتوى التاريخي، تبرز حقيقة أخرى أقرب زمنياً، هي الاتجاه الواضح بتراجع حصة الدولار في احتياطيات العملات الأجنبية لدى الدول المختلفة من نحو 72% عام 2000 إلى 58% منها تقريباً عام 2020؛ تماشياً مع حدثين بارزين خلال هذه الفترة، هما أولاً ظهور اليورو كعملة مُوحدة قضمت جزءاً من سوق الدولار، وثانياً، والأهم، النمو السريع لحصة الصين في الاقتصاد العالمي وانعكاسات ذلك على جزء من تعاملاتها الثنائية بعملتها الخاصة.
وتحتل مديونية الولايات المتحدة المتزايدة، والتي تثير جدلاً داخلياً حاداً هذه الأيام، رأس محركات تراجع الثقة بالدولار، فتلك الديون المتركمة، التي بلغت اليوم ما يقرب من ربع إلى ثلث الناتج الإجمالي العالمي، تمثل قنبلة موقوتة في بنيان النظام المالي العالمي، ودافعاً ثابتاً لاتجاه أغلب الدول، بما فيها حتى أعتى حلفاء الولايات المتحدة، لتقليص احتياطياتهم وأصولهم الدولارية؛ بدوافع اقتصادية بحتة، بعيداً عن أيّة أجندات استقلالية أو مواقف سياسية من الهيمنة الأميركية، كالتي تتبنّاها مثلاً روسيا وإيران وما شابهها من قوى لا يزال معظمها اقتصادات من الدرجة الثانية.
هذه الديون لا بد أن تنعكس، طال الوقت أو قصر، على القيمة الحقيقية للدولار بالسلب، بخسائر حقيقية على كل متعامل به بدءاً من المواطن الأميركي نفسه داخل الولايات المتحدة، لكن المفارقة هي قدرة أميركا مع ذلك على رفع قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى، أي رفع قيمته الحقيقية خارجها، بأدوات نقدية اصطناعية تكتسب أهميتها وتأثيرها أساسًا بفضل مكانة الدولار الدولية نفسها؛ ما يؤدي لتناقض يستحيل استمراره في سوق النقد القائمة أساساً على الثقة، والمحكومة بتعادل القيم الحقيقية والإسمية في الأجل الطويل، ولا نناقش هنا دور هذه السياسات النقدية نفسها في استنزاف مصداقية الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً أمام كل الدول المتضرّرة من آثار هذه السياسات على اقتصاداتها.
نفس هذا الدولار، بفضل سيطرته المفرطة على السيولة الدولية، يتيح للولايات المتحدة الاقتراض من الأسواق الدولية بأفضل شروط من جهتيّ آجال السداد وأسعار الفائدة، الأمر الذي لا يمكن أن يستمر بذات الوتيرة مع هذه المديونية المتصاعدة، خصوصاً مع التوقعات المستقبلية السلبية بالأداء الاقتصادي الكلي الأميركي في الأجل المتوسط على الأقل.
كما انعكست في عوائد سندات الخزانة الأميركية، حيث تخلّفت عوائد السندات طويلة الأجل (بما تعنيه من انخفاض توقّعات النمو) عن عوائد نظيرتها قصيرة الأجل (بما تعنيه من تضخّم مُتوقع وضرورة التشديد النقدي)؛ ما ينعكس بمزيد من السلبية على توقّعات المستثمرين، فيما يرفع تكاليف تمويل كل من الاستثمار الخاص والدين العام الأميركي؛ فيعمّق المخاوف بشأن آفاق النمو والتشغيل والمالية العامة بالاقتصاد، في سياق من تفاقم المخاوف الجيوبوليتيكية متزايدة الأهمية في الفترة الأخيرة.
مصالح مشتركة وبديل غائب:
من جهة أخرى، تبرز مُعطيات لا يمكن تجاهلها تدعم استمرار هيمنة الدولار، أهمها على الإطلاق مصلحة الصين، ثاني أكبر لاعب في الاقتصاد العالمي، في عدم تدهور الدولار سريعاً؛ مع انكشافها الكبير عليه من جهة أصولها وتعاملاتها التجارية، ومصلحتها الأكيدة في عدم تراجع موجة العولمة الحالية، صاحبة الفضل الأول في نهضتها الاقتصادية وكامل تجربتها التنموية القائمة على التصدير، الذي سيظل يحتل مكانةً مهمة في نموذجها الاقتصادي، مهما حاولت تغييره حالياً باتجاه تنمية الطلب المحلي تماشياً مع تحسّن الأجور فيها وتقلّص ميزتها النسبية التاريخية.
كذا فالصين نفسها، رغم الفوائد المحتملة لانتشار عملتها كعملة دولية، ليس من مصلحتها أن تصبح عملتها عملة السيولة الدولية الوحيدة؛ لما يتطلّبه ذلك من متطلبات وأعباء لا تبدو الصين مستعدة لها بعد، كما لا يشجع غيابها المستثمرين على التوسّع في امتلاك اليوان والتعامل به على نطاق واسع، فأولاً، يتطلّب وضع عملة السيولة الدولية ميزاناً تجارياً سلبياً، يضمن تدفّق اليوان للتعاملات خارج الصين، وهو ما لا يزال غير وارد في المدى المنظور، كما يتعارض مع كامل النموذج التنموي الصيني المعروف حتى تاريخه.
وثانياً، يستلزم وضع العملة الدولية من حكومتها مستويات أعلى من الشفافية والحوكمة التي تعطي الثقة للمتعاملين؛ ما يتطلّب تغييرات جوهرية في كامل البنية السياسية والمؤسسية للصين؛ الأمر الذي يرجح عدم تحقّقه في الأجل المنظور كونه يصطدم بمصالح النخبة الحاكمة فيها، ويتناقض مع واقع عالمي تسوده الأزمات الاقتصادية والحروب التجارية والمواجهات الجيوبوليتيكية المتصاعدة بشكل اضطر الولايات المتحدة نفسها للتخلّي عن بعض من التزامها المؤسسي.
تناقضات مركزية:
إن التناقض المركزي الأول في الهيمنة الدولية للدولار، وفي أيّة عملة وطنية أخرى تحاول القيام بذات الدور، هو "التناقض المؤسسي" الذي تواجهه السياسات النقدية للاقتصاد صاحب العملة السائدة، فبينما تتكيّف تلك السياسات مع الاحتياجات الخاصة المتغيّرة لذلك الاقتصاد الوطني، فإنها لا تتسّق أغلب الوقت مع احتياجات الاقتصاد العالمي بمجموعه، ناهيك عن الاقتصادات الوطنية الأخرى مختلفة مستويات التطور واتجاهات المصالح، بل والمتناقضة في كل ذلك في كثير من الأحيان.
ينعكس هذا التناقض على مصداقية الحكومة راعية عملة السيولة الدولية في مواجهة الحكومات الأخرى، وهو الأمر الذي أثاره الرئيس الفرنسي شارل ديغول منذ ستينيات القرن الماضي (ويزعم البعض أن حركة 1968 التي استقال إثِرها كانت بدعم أميركي كامل)، كما يشوّه تحرّكات رؤوس الأموال بما يتناقض مع ما تستهدفه العولمة من كفاءة تخصيص الموارد على الصعيد العالمي بما فيه صالح الجميع؛ بشكل يدفع بالبعض للانشقاق عليها، وبما يتعارض بالتالي مع مبرّر وجود عملة سيولة دولية وحيدة من الأساس.
أما التناقض المركزي الثاني فهو "التناقض المادي" بين البنية المالية والنقدية التي تتسنّمها العملة السائدة كبنية فوقية من جهة، والبنية الإنتاجية للاقتصاد الحقيقي كبنية تحتية من جهة أخرى، فكلما تراجع الوزن النسبي للاقتصاد صاحب العملة السائدة في الاقتصاد العالمي؛ زاد تعارض المصالح القومية وتفاقم التناقض الأول، المؤسسي؛ ليزداد تفارق المصالح ما بين الاقتصاد الأميركي والمصلحة العامة للاقتصاد العالمي، سواء من جهة السياسات وطنية الأفق أو من جهة المكاسب الريعية من العملة السائدة.
هذه التناقضات المترابطة المكتومة فاقمتها الولايات المتحدة أولاً بالإفراط في الإصدار النقدي طوال العقد الأخير وفترة كورونا خصوصاً، ثم نزعت صمام الأمان ومهّدت لانفجارها بنفسها عندما استخدمت دولارها سلاحاً للعقوبات ضد قوة معتبرة كروسيا بعد الحرب الأوكرانية؛ في توقيت كان الأسوأ على الإطلاق من جهة الآثار السلبية لسياسات التشديد النقدي الأميركية على الاقتصادات الأخرى؛ لتذكّر كافة دول العالم بمخاطر الاعتماد المُفرط على عملة دولة وحيدة، لا تقدّم أيّة ضمانات لهم بعدم إساءة استغلال عملتها سياسياً واقتصادياً في ظل غياب بدائل كافية؛ لينفتح الباب مُجدداً للجدل الجديد القديم بضرورة عدم استمرار هذه الهيمنة غير الآمنة من جهة، والتي بدأت تتراكم روافع نهايتها بالفعل من جهة أخرى.