لا أميل إلى التوقعات والتكهنات عند الحديث عن سعر صرف العملات، لأسباب كثيرة منها أن العملات تشبه البورصات وأسواق المال ومن الصعب توقع مسارها وتحركاتها وموعد تذبذبها أو انهيارها أو قفزاتها، فحركة الاثنين ترتبط بعوامل كثيرة.
أسعار العملات مثلا تتوقف حركتها على عوامل الطلب والعرض وإيرادات الدولة من النقد الأجنبي، وحجم العجز في الميزان التجاري، واحتياطي البنك المركزي، وحجم الالتزامات المستحقة على الدولة سواء لأغراض الديون أو الواردات.
وهناك العوامل النفسية والشائعات والمضاربات والتي لا يمكن تجاهلها، إذ إنها تلعب دورا مهما في تحديد اتجاهات سعر صرف العملة المحلية في أي دولة، وهناك أيضا عمليات استهداف العملات من أطراف خارجية وما تُسمى بحرب العملات، وسعي بعض الدول للإضرار بعملات الدول المعادية لها وبالتالي التأثير سلبا على اقتصادها ومركزها المالي وبيئة الاستثمار بها...
الليرة مرشحة للتراجع، والحل أن يترك أردوغان البنك المركزي يدير سوق الصرف طبقا للمعايير الفنية، أو أن ينصب نفسه محافظا للبنك المركزي
أما بالنسبة للبورصات، فإن تحركاتها تخضع للحالة الاقتصادية للدولة، وأرباح الشركات المقيدة في أسواق المال، ومدى قوة الشركة، وسمعتها، وكفاءتها، ومهنيتها، وثقة السوق بها، ومدى التزامها بقواعد الحوكمة والحكم الرشيد، ونجاح إدارتها، ونوعية منتجاتها وخدماتها، إلى جانب عوامل خارجية أخرى منها حركة تداول الأسهم في البورصات الإقليمية والدولية وموجات نزوح الأموال حول العالم وغيرها.
كما أن هناك عاملاً مهما أخر وهو أنه لا يجوز لأحد أن يوجه الأسعار وحركة الأسواق بكل أنواعها، صرف وعملات وبورصات وحتى أسواق السلع، ذلك لأن هذا السلوك غير الأخلاقي يضغط على الأسواق وقدرات الدول، وقد يوجه الفرد نحو سلوك محدد قد يجلب له الخسائر فيما بعد، خاصة إذا ما استثمر أمواله في أدوات لا يمتلك الخبرة الكافية بها.
ورغم هذا التحفظ على التكهنات والتوقعات المتعلقة بالعملة، إلا أنني توقعت استمرار تهاوي الليرة التركية، بل وحددت رقما لسعر الدولار قلت إنه من المتوقع أن يصل إليه في تركيا وهو 10 ليرات قبل نهاية العام الجاري، علما بأن سعر الدولار تجاوز اليوم الثلاثاء 9.3 ليرة.
حدثت هذه التوقعات منذ عدة شهور، وقتها كان سعر الدولار أقل من 8 ليرات، واستغرب الأصدقاء هذه التوقعات خاصة مع تحسن مؤشرات الاقتصاد التركي والطفرات التي حققتها الصادرات، المصدر الأول للنقد الأجنبي في البلاد، وبلوغ قيمتها أعلى رقم في تاريخ الدولة التركية وهو 200 مليار دولار.
إضافة إلى عوامل أخرى منها تحسن احتياطي تركيا من النقد الأجنبي وتجاوز قيمته 120 مليار دولار، وعودة الحيوية لقطاع السياحة، وزيادة جاذبية العقارات للاستثمار الأجنبي، والتقارب السياسي التركي ــ الخليجي خاصة مع السعودية والإمارات، وتدفق الأموال الأجنبية على تركيا خاصة من روسيا وليبيا وإيران والصين وأفغانستان ودول الخليج.
تحسن احتياطي النقد الأجنبي وتجاوز قيمته 120 مليار دولار، وعودة الحيوية لقطاع السياحة، وزيادة جاذبية العقارات للاستثمار الأجنبي، والتقارب السياسي التركي ــ الخليجي لم يمنع تهاوي الليرة
وبنيت توقعاتي المتشائمة نحو العملة التركية على عدة أسباب منها استمرار الضغوط التي يمارسها أردوغان على البنك المركزي، والضغط المتواصل لخفض سعر الفائدة رغم زيادة معدل التضخم، وإقالة الرئيس التركي قيادات بارزة بالبنك المركزي وعزل 3 محافظين للبنك في فترة لا تتجاوز 3 سنوات، وعزل نائبين للمحافظ ومسؤول بالسياسة النقدية قبل أيام، واستمرار تدخل مؤسسة الرئاسة في إدارة السياسة النقدية، وغض الحكومة التركية الطرف عن تراجع الليرة للاستفادة من الخطوة في زيادة الصادرات وتحسين إيرادات البلاد من النقد الأجنبي.
ومن بين الأسباب التي دعتني للتشاؤم كذلك الضغوط الخارجية العنيفة التي تعرضت لها الليرة التركية في الفترات الأخيرة، وهي بالمناسبة كثيرة، فهناك محاولات حثيثة من دول خليجية وأوروبية لإثارة الاضطرابات في سوق الصرف التركي وإحداث فوضى به لإثارة فزع المستثمرين الأجانب والأتراك على حد سواء، ودفع الأموال الساخنة والاستثمارات الأجنبية نحو الهروب، وتخويف رجل الشارع التركي من موجة تضخم في الأسعار بسبب تهاوي عملته.
وهناك أسباب أخرى متعلقة بالوضع السياسي التركي بشكل عام والمواجهات التي خاضتها الدولة التركية سواء ضد الإرهاب والانقلاب العسكري في الداخل، أو اضطرابات شمالي سورية والعراق، أو الخلافات الحادة مع اليونان وقبرص وروسيا وفرنسا وألمانيا في بعض الأوقات، وكذا مع الولايات المتحدة خاصة خلال فترة رئاسة دونالد ترامب.
الليرة التركية مرشحة للتراجع، والحل هو أن يترك أردوغان البنك المركزي يدير سوق الصرف والسياسة النقدية طبقا للمعايير والأسس الفنية السليمة المتعارف عليها، أو أن ينصب نفسه محافظا للبنك المركزي.