"انفصلتُ عن زوجتي.. أريدُ منزلي لأعيش به"، بهذه الكلمات علمت أم مصطفى أن صاحب منزلها في حي زيتون بورنو في إسطنبول سيخرجها من البيت، ويسعى لاستبدالها بمستأجرٍ جديد يدفع إيجاراً يتناسب مع سعر الدولار ويعيد لمنزله "هيبته" الضائعة. فهو عندما عهِد لها بمنزله منذ أربعة أعوام بـ 1000 ليرة تركية كان يعلم أن قيمتها نحو 200 دولار، أما الآن وبعد رفعه الإيجار على مدار الأعوام الأربعة إلى 1600 (نحو 120 دولارا) فإنه يشعر أن تجارته خاسرة ويسعى لجبرها دون أن يجرح مشاعر أم مصطفى المستأجرة الجيدة وفقَ تعبيره.
ومنذ ذلك الحين تحوّلت حياة أم مصطفى إلى كابوس فهي تعلم أنها لن تجد منزلاً مناسباً تستأجره في المنطقة ذاتها، حيث يعمل أبناؤها في مشغل خياطة وتدرس ابنتها الوحيدة في إحدى مدارس الحي القريبة. يحقّ للمالك رفع أجرة عقاره سنوياً بنسبة تصل إلى 17.09% وفقَ بيانات هيئة الإحصاء التركية الأخيرة، وتعدّ هذه الزيادة ضئيلة بالقياس مع الإيجارات الجديدة، ما يدفع أصحاب المنازل الأتراك بالتذرّع للمستأجرين القدامى بأنهم بحاجة للمنزل ومن ثمّ إخراجهم منه وعرضه بسعر مختلف.
لم تترك أم مصطفى أحداً من معارفها وجيرانها دون أن تسأله عن منزل، ولا حتى في مجموعات "فيسبوك"، ولكن لا منازل للإيجار في منطقتها، وخاصة للسوريين، وإن وجد فإن أسعارها أكثر من 3000 ليرة ما لا يتناسب مع وضعها المالي.
هبطت الليرة التركية إلى مستويات قياسية خلال الأيام القليلة الماضية وتخطت حاجز الـ 13 مقابل الدولار الواحد، ترافق مع هذا الهبوط ارتفاع حاد في أسعار إيجارات المنازل، وتصدّرت إسطنبول المدن من حيث الارتفاع، وبحسب تقرير أعدّه مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية بجامعة "بهشي شيهير" بلغ متوسط زيادة الإيجارات في إسطنبول 70% ونحو 50% في ولايات أخرى، فيما تحدثت أبحاث لشركات العقارية عن ارتفاع أجرة المنازل بنسبة وصلت لـ 300% في بعض المناطق في إسطنبول.
ويعزو الخبير الاقتصادي التركي، علاء الدين إسماعيل شنكولر، أسباب ارتفاع إيجارات المنازل في تركيا إلى عدة عوامل أبرزها: عودة البلاد لحركتها الطبيعية بعد انخفاض تأثير جائحة كورونا، واستئناف الطلاب لجامعاتهم (عودة التعليم وجهاً لوجه)، فضلاً عن توافد العديد من اللاجئين من بلدان مجاورة مثل لبنان وأفغانستان، ما خلق حالة طلب كثيفة لا تتناسب مع المعروض من المنازل، مؤكداً أن انخفاض قيمة الليرة أثّر أيضاً على أسعار الإيجارات لكن لا مخاوف من ارتفاعها أكثر في المرحلة القادمة بحسب شنكولر.
صاحب أحد المطاعم السورية في مدينة إسطنبول تحدّث لنا مؤكداً مخاطر ارتفاع إيجار المنازل على السوريين "الكتلة الأكبر من اللاجئين في تركيا"، 3.6 ملايين لاجئ، مشيراً إلى أن ظروفهم المادية السيئة ستجعلهم يقاسون أكثر لتأمين متطلباتهم الأساسية.
وأكمل حديثه لـ"العربي الجديد" قائلاً إن "أكبر مشقة يعانيها اللاجئ السوري هي تأمين أجرة منزله والفواتير.. ربما يستطيع السوري أن ينام جائعاً وعطشاناً، لكنه لا يستطيع النوم أبداً إذا لم يسدّد أجرة المنزل". ما تزال أم مصطفى تبحثُ عن منزل آخر، لكنها على الأرجح ستضطر لتبديل المنطقة والابتعاد عن المركز وأكثر شعبية، وسيقضي ابناها مدة أطول في طريقهم إلى العمل لتأمين إيجار المنزل الجديد.
في السياق ذاته، أكد خالد تركاوي، وهو باحث في الشأن الاقتصادي لـ"العربي الجديد"، أن انخفاض قيمة الليرة التركية له أثرٌ رئيس على ارتفاع إيجارات المنازل، فالحياة كلها تبدّلت مع انهيار العملة، ومن الممكن أن صاحب المنزل يعتاش من أجرة منزله، لذا فإنه من الطبيعي أن يفكّر برفعها في الوقت الذي ينفق فيه مبالغ مضاعفة على احتياجاته الملحّة من طعام ولباس وخدمات أساسية.
بالإضافة إلى انتقال العديد من الأتراك إلى إسطنبول للعمل بعد تراجع أعمالهم بفعل جائحة كورونا، كلّ ذلك أدى إلى زيادة الطلب وانخفاض العرض، لا سيما أن الكثير من المشاريع العقارية توقفت بسبب الخوف من الجائحة.
يتقاضى السوريون أقلّ أجور في تركيا، ولا تصل إلى الراتب "الأصغري" المحدّد من قبل الحكومة التركية 3800 ليرة، وفي كثير من الأحيان لا تتجاوز مرتباتهم الـ 2500 ليرة وفقَ تركاوي، الذي شدّد على أن الدخل الضعيف مع إيجار مرتفع قد يوصل اللاجئ إلى حال مزرية، وسيضطر إلى أن يقنن في احتياجاته الضرورية على حساب تأمين الأجرة، ما يعود بالضرر على أسرته في مجالات (الصحة والتغذية والتعليم)، كذلك من الممكن أن تدفعه حالة اليأس إلى العودة نحو مناطق الشمال السوري أو التفكير جدياً بالهجرة إلى أوروبا، وهو ما يحدث ونسمع به بين الفينة والأخرى.
مع ذلك، يرى الباحث بادرة تفاؤل وخير في السوريين الذين أثبتوا مراراً أنهم قادرون على التأقلم مع الظروف الجديدة. وأضاف "أعتقد أن اللاجئ السوري طوّر ميكانزيمات جديدة للتعامل مع الأزمات، وأكسبته سنوات اللجوء الطويلة والصعبة خبرات ربما لا تتوافر لدى غيره، وقد يتغلّب على مأزق ارتفاع إيجار المنزل بتغيير عمله أو زيادة إنتاجه بما يتواءم مع الوضع الاقتصادي الجديد".