عاد استخدام "دفاتر الديون" من قبل المحلات والتجار في الجزائر. مؤشر جديد يؤكد انهيار قدرة الجزائريين الشرائية متأثرة بتبخر سريع لقيمة الدينار، فيما تحذر نقابات العمال ومنظمات حماية المستهلك من ترنح "الطبقة الوسطى".
في حي "الحراش" الشعبي في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائر، رافقت "العربي الجديد" العامل عبد الرحمن تاج الدين في رحلة تسديد ديونه، بعد سحبه الراتب الشهري الذي يبلغ 22 ألف دينار شهرياً (156 دولاراً). جولة العامل عبد الرحمن بدأت في محل بيع المواد الغذائية، الذي بدأ صاحبه في تقليب صفحات دفتر "الديون" ليجد اسم عبد الرحمن أمامه.
حجم الدين المتراكم خلال شهر هو 5600 دينار، يسددها عبد الرحمن ويشتري بعض ما يلزم بيته من المواد الغذائية الأساسية. الوجهة الثانية مكتبة الحي، التي كانت ملاذ العامل لاقتناء أدوات أبنائه الثلاثة المدرسية، الدين هنا 8500 دينار جزائري. بقي دفتر ديون بائع الخضر والفواكه، الذي أشار إلى مبلغ 3000 دينار.
وهكذا، دفع عبد الرحمن 17100 دينار قبل أن يصل إلى منزله، ولم يتبق له سوى مبلغ 4900 دينار لإنفاقه طوال الشهر.
هذا المشهد يتكرر مع الملايين من الجزائريين ذوي الدخل الضعيف والمتوسط، والذين بات دفتر الديون لدى التجار ملاذهم لإنهاء شهر مثقل بمصاريف أنهكت جيوبهم المكوية بغلاء المعيشة.
يقول عبد الرحمن، وهو عامل صيانة في شركة خاصة، لـ"العربي الجديد"، إن الشهر يمر وكأنه سنة، ينتظر الراتب "الضعيف" ليخفف الدين عليه، ففي الأشهر الأخيرة، بات يتديّن من بائع المواد الغذائية وبائع الخضر وحتى الصيدلي، وإلا يموت هو وعائلته جوعاً.
يضيف لـ"العربي الجديد" أنه "كباقي (الزوالية) (الطبقة الوسطى باللهجة الجزائرية)، بات لا يجد ما ينهي به شهره بعد اليوم السابع أو العاشر كأقصى حد بعد سحب الراتب، "تجد ديون الشهر الماضي تنتظرك، المعيشة أصبحت غالية ودفتر الدين هو من يسترنا".
وكانت دفاتر الديون تسود قبل تعافي الدينار نهاية التسعينيات من القرن الماضي من صدمة أزمتي 1986 و1994 الماليتين، مستفيدا من ارتفاع أسعار النفط. غير أن تبني الحكومة سياسة تعويم العملة الوطنية أعاد هذه الظاهرة إلى الواجهة.
وسجل الدولار في التعاملات الرسمية، مطلع فبراير/ شباط الحالي، 140.2 ديناراً، بعدما أنهى السنة الماضية عند 139 ديناراً، في تهاوٍ غير مسبوق في تاريخ العملة الجزائرية أمام العملة الخضراء. وبهذه الوتيرة، يُرتقب أن يتخطى الدولار عتبة 150 ديناراً قبل نهاية 2022، رغم الخطاب الرسمي المطمئن الجزائريين بعودة العافية للعملة التي تعيش أسوأ أيامها.
وانعكست هذه الأزمة على أوضاع المواطنين المعيشية، حيث شهدت أسعار العديد من المواد الاستهلاكية، وخاصة الغذائية منها، ارتفاعات كبيرة.
يقول التاجر عبد الوهاب جعفر شريف، صاحب "سوبر ماركت" في حي القبة وسط الجزائر العاصمة، إنه "لاحظ شيئاً مقلقاً في الأشهر الأخيرة بموازاة ارتفاع الأسعار، وهو تغير سلوك الجزائريين الاستهلاكي، فالأسر تخلت عن الكماليات التي كانت في الأمس القريب من الأساسيات.
أما الملاحظة الثانية فهي لجوء الكثير من زبائنه إلى الدين لحين سحب الراتب. وإن لم يخف التاجر في حديثه لـ"العربي الجديد" أنه لا يفضل العمل بدفتر "الدين"، إلا أن ظروف الحياة ومعرفته بواقع أبناء حيه تجعله مجبر على الموافقة.
ويشرح صادق دزيري، رئيس نقابة عمال التربية والتكوين (عضو في كونفدرالية النقابات المستقلة)، أنه صدم عندما عرف أن معلمين باتوا يتديّنون من التجار لإكمال أيام الشهر نظراً لغلاء المعيشة، بالرغم من مكانة المعلم في المجتمع الجزائري.
ويضيف: "هذا مؤسف، ليس من باب التمييز بين العمال الجزائريين، بل لأننا كنقابات حذرنا منذ سنوات من وقوف نصف الجزائريين على أعتاب الفقر بسبب انهيار قدراتهم الشرائية، عندما يتجه مواطن لشراء ما يحتاج إليه ويطلب من التاجر تسجيل ذلك في "دفتر الدين"، هذا يعني أن هذا المواطن ليس من الطبقة الميسورة أو الوسطى، بل هذا المواطن أقرب للفقر".
ويتابع النقابي في حديث مع "العربي الجديد" قائلاً "سنستمر في الضغط على الحكومة إلى غاية إنقاذ جيوب الجزائريين المنهكة بغلاء المعيشة، ولا يجب على الحكومة أن تواصل التحجج بالجائحة الصحية والوضعية الاقتصادية للبلاد لإكمال سياساتها".
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي والمستشار المالي عبد الهادي قدوري إن "الدينار تراجع بواقع 30 في المائة، فيما ارتفع التضخم إلى 4 في المائة حسب الأرقام الرسمية المشكوك بصحتها، أما قيمة الرواتب فهبطت 11 في المائة، في المقابل غلاء المعيشة ارتفع 15 في المائة".
ويلفت الخبير الجزائري في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن "أجور المواطنين تفقد دورياً قدرتها الشرائية، وتقترب بسرعة من الانهيار، ما يعني أن عائدات الأسر المالية لم تعد تكفي حجم الإنفاق".