بينما لا يزال اللبنانيون يعانون من عدم قدرتهم على صرف مدخراتهم بالدولار في البنوك بفعل الانهيار المالي الذي تشهده الدولة، أطلت أزمة جديدة عنوانها "الدولار القديم"، التي يصفها متعاملون بأنها "فضيحة نصب جديدة" بسبب صرف البنوك إصدارات قديمة من العملة الأميركية ضمن تحويلات مالية حديثة خاصة للموظفين في شركات ومؤسسات أجنبية، بينما ترفض استبدالها بإصدارات حديثة، ما يبقى المواطنين في حالة ذعر من التعامل مع القطاع المصرفي الذي تلاحقه اتهامات بـ"الفساد والاحتيال"، الأمر الذي استدعى رداً من مصرف لبنان المركزي والسفارة الأميركية في بيروت، وواحدة من أكبر شركات تحويل الأموال في الدولة.
وبدأت الشكاوى تتصاعد مما يُعرَف بـ"الدولار القديم وخصوصاً من فئة 100 دولار". إذ يقول المواطن الذي عرف نفسه باسم فادي لـ"العربي الجديد" إنه "يواجه صعوبة كبيرة في صرف دولارات بإصدارات قديمة، حيث إن المؤسسات التجارية والمالية ترفض التعامل بها، كما أن الصرافين يستغلون ذلك ويرفضون تصريفها إلا بشرط تخفيض سعرها بنسبة تصل إلى 20%".
ويلفت فادي إلى أن "الدولارات التي بحوزته ليست مخزنة، بل تشكل راتبه الذي يسحبه شهرياً من جهاز الصراف الآلي التابع لبنك لبناني كونه يعمل لصالح مؤسسة أجنبية ويقبض ما يُعرف بالفرش دولار".
و"الفرش دولار" وفق المتعارف عليه بين اللبنانيين، هو الرواتب أو التحويلات المالية الحديثة عبر المصرف أو عبر شركات التحويل مثل "ويسترن يونيون". لذا يعبر فادي عن استغرابه من الحصول على راتبه بإصدارات قديمة، مؤكدا أنه عندما يعود إلى البنك لطلب استبدال ما تقاضاه يواجه صعوبة في ذلك.
ما حصل مع فادي تعاني منه أيضاً رانيا التي تؤكد لـ"العربي الجديد" أن "نصف راتبها الذي تقبضه بالدولار تحصل عليه بالإصدارات القديمة أو تكون العملة تالفة، وهي لم تكن تولي الموضوع أهمية إلى أن واجهت مشاكل في بعض الدول العربية التي رفضت تصريفها كما بدأت مؤسسات تجارية في لبنان ترفض التعامل بها، وحين قصدت البنك لتبديلها قال لها بداية لا عملة جديدة، ثم طلب منها عمولة لقاء إجراء هذه العملية".
هذه الظاهرة، التي بدأت تنتشر في لبنان ويُحكى عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت حالة من البلبلة والذعر في صفوف مواطنين هرعوا إلى المصارف لطلب تبديل دولاراتهم "القديمة" أو عند الصرافين وإن خسروا من قيمتها، وذلك خوفاً من وقف التعامل بها نهائياً.
لكن وحدة الإعلام والعلاقات في مصرف لبنان، أصدرت بياناً قالت فيه "نظراً إلى قيام بعض المصارف ومؤسسات الصرافة باستيفاء عمولات مقابل تبديل أوراق نقدية من الدولار الأميركي لاعتبارها قديمة الإصدار أو غير صالحة للتداول، يهمّ مصرف لبنان أن يوضح للجمهور أن مواصفات الأوراق النقدية من الدولار القابلة للتداول تحدد من قبل Bureau of Engraving and Printing وهي هيئة تابعة لوزارة الخزانة الأميركية، كما أن مصرف لبنان هو الذي يحدد مواصفات العملة اللبنانية القابلة للتداول".
ودفعت ردود الفعل الواسعة، السفارة الأميركية في بيروت، إلى إصدار رد قالت فيه إن "سياسة الحكومة الأميركية تنص على أن كل تصاميم الاحتياطي الفدرالي الورقية هي عملة قانونية أو صالحة قانونياً للمدفوعات، بغض النظر عن تاريخ إصدارها"، مشيرة إلى أن "هذه السياسة تشمل جميع الفئات الورقية للاحتياطي الفدرالي من سنة 1914 إلى اليوم".
كما، أوضحت شركة "OMT"، إحدى أكبر شركات تحويل الأموال والصرافة في بيان لها، أنه لا يتم استيفاء أي رسم إضافي نظير القبول بالطبعة البيضاء من فئة الـ 100 دولار عبر أي من مراكزها، موضحة في المقابل أنها "لا تقبل أي ورقة نقدية ممزقة، محروقة، صفراء اللون أو تالفة ولو جزئياً".
ويؤكد صراف غير شرعي في بيروت لـ"العربي الجديد" أن "الدولار التالف أو القديم أو المهترئ ما عاد مقبولاً في كثير من الدول العربية والأجنبية كوسيلة للدفع أو للتعامل ولا يصرَف، وكذلك بدأت مؤسسات تجارية في لبنان ترفضه فكيف علينا نحن أن نتعامل به؟ أو نقبل بالخسارة؟ من هنا نرضى بتصريف 100 دولار ولكن بأقل من سعر الصرف اليومي بنحو 20%".
ويشير الصراف إلى أن "المواطنين فقدوا الثقة بالدولار القديم وأصبحوا يفضلون التعامل بالإصدارات الجديدة، وهو ما دفعهم في الأيام القليلة الماضية للجوء إلى الصرافين وطلب تبديلها وليس تصريفها حتى لو خسروا من قيمتها".
يقول الكاتب والباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفسور مارون خاطر لـ"العربي الجديد" إن "بعض المؤسسات والشركات أصدرت تعاميم منعت بموجبها موظفيها من التعامل بالدولار القديم، أو حددت سنوات الإصدار المسموح بها وبدأت تخلق أعرافاً كلها مخالفة للقانون مستغلة غياب الدولة وأجهزتها الرقابية".
ويشير خاطر إلى أن "القانون الأميركي ينص بشكل صريح على أن كل الطبعات أو الإصدارات القديمة هي صالحة للاستعمال والاستبدال، بما فيها تلك التالفة من دون خسارة قيمتها، كما أن دولاً كثيرة تضع ضوابط على مسألة التداول بالإصدارات القديمة ولكنها في الوقت نفسه تسمح باستبدالها عبر المصارف، مع العلم أن كلفة الشحن ليست باهظة ولا سيما في البلدان التي تكثر فيها العمليات التجارية والتعامل بالدولار الأميركي".
ويوضح أن "العلاقات التجارية مع دول الخارج باتت شبه معدومة في لبنان بفعل الانهيار الاقتصادي، والكتل النقدية الدولارية جزء كبير منها مخزن وموجود في المنازل وهي إما قديمة أو تالفة من كثرة التداول محلياً، ونسبة قليلة تحرّك في عمليات تجارية خصوصاً خارجية".
لكن أخطر ما يحصل في لبنان وفق خاطر أن "المصارف هي التي تملأ أجهزة الصراف الآلي بالدولارات القديمة وتضعها بالتداول في السوق، وهي نفسها تعطي المودع 400 دولار 200 منها بالإصدار القديم، وفي الوقت نفسه بعضها يطلب عمولة شحن 5 دولارات على الـ400 دولار، وبالتالي طالما أن هذه الإصدارات لم تعد صالحة فلماذا يعمد إلى وضعها قيد التداول؟".
وكذلك يلفت خاطر إلى أمر في غاية الخطورة ويفتح الباب أمام علامات استفهام كبرى، يتمثل في أنّ الإصدارات القديمة تشمل أيضاً "الفرش دولار" وبالتالي رواتب الموظفين في المنظمات غير الحكومية والمدنية والمؤسسات الأجنبية والعربية التي يتقاضونها شهرياً، والتي ترسل إلى البنوك بإصدارات جديدة، فلماذا تلجأ المصارف إلى هذه الممارسات؟ ومن أين تأتي بالأموال القديمة؟".
ويشير خاطر إلى أنه "في حال كانت المصارف تتذرع بتوقف التحويلات، فعلى السلطات النقدية أن تصدر تعاميم تلزم المؤسسات المالية والتجارية بالتعامل بجميع إصدارات الدولارات بانتظار دخول أموال جديدة إلى السوق".
يتوقف الكاتب والباحث في الشؤون المالية والاقتصادية عند السبب وراء غياب السلطات الرسمية وأجهزتها الرقابية التي لم تتدخل لضبط السوق ومراقبة عملية شحن الأموال ومنع تفاقم المشكلة وانتشارها
ويحذّر من "وجود نوايا خبيثة تستهدف ما تبقّى من مدخرات الناس في المنازل وتقدّر بحوالي 5 مليارات دولار، وتفتعل أزمة نفسية جديدة تضغط على حاملي الدولارات قديمة العهد إلى استبدالها أو استعمالها أو صرفها وإن خسرت بين 5% إلى 10% من قيمتها، لافتاً إلى أن ما يحصل يؤدي إلى نشوء سوق موازية جديدة متخصصة في استبدال الدولارات بالإصدارات القديمة وتستهدف الكتلة النقدية المخزنة، من دون أن يستبعد وقوف شبكة مؤلفة من مصارف وصرافين وشركات تحويل ومن خلفهم سياسيون وراء ما يحصل".
ويتوقف الكاتب والباحث في الشؤون المالية والاقتصادية عند السبب وراء غياب السلطات الرسمية وأجهزتها الرقابية التي لم تتدخل لضبط السوق ومراقبة عملية شحن الأموال ومنع تفاقم المشكلة وانتشارها، ولا سيما بعدما بدأ لبنانيون فعلاً باستبدال دولاراتهم.
في المقابل، يشير الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف في لبنان سمير حمود في اتصال مع "العربي الجديد" إلى أن "أي دولة يمكن أن تعتبر أوراقاً نقدية بحكم الملغاة، سواء كان الدولار أو عملتها الوطنية، وتحدد لها تاريخا يكون طويلا عادة يصبح فيه التداول بها غير مقبول، ولكن في الوقت نفسه تسير بخطة تتمثل باستبدال هذه الأوراق النقدية بأخرى جديدة".
وحول العمولة التي يطلبها البنك لتبديل الدولار من فئة الـ 100 دولار، يقول حمود "عندما تبدأ المؤسسات تتفادى التعامل بالدولار بالإصدار القديم يصبح هناك حتمية للشحن واستبداله، وهذه العملية تحصل مع الولايات المتحدة وتقوم بها شركات شحن الأموال، وبالتالي لها تكاليفها والتي تنعكس على الناس".
بدوره، يقول ميشال مكتف، المدير العام لشركة مكتف للصيرفة وشحن الأموال لـ"العربي الجديد" إن "شركته الوحيدة عندها تفويض أو اذن لشحن العملة إلى أميركا وبما أن هناك مشكلة مع القضاء عن غير حق، اوقفنا الشحن منذ شهر حتى يصدر قرار سواء بالتبرئة أو الإدانة تبعاً للقانون علماً اننا نعلم أننا لم نرتكب أي خطأ وشركتنا مرخصة واعمالها قانونية ومعترف بها عالمياً".
وأضاف أنه لطالما حذر من مثل هذه الأزمة، موضحا أن "العملة الورقية معروف أنها تتعرض للاهتراء مع الوقت وتفقد حتى قيمتها من كثرة الاستهلاك، وترفض الدول التعامل بها، ولذلك يأخذها البنك الأميركي ويتلفها ويصدر عملة ورقية جديدة بدلاً منها، واليوم السوق السوداء تبتز الناس والصرافين بدأوا يأخذون عمولات لقاء تبديل الدولار، وربما يتوقفون أصلاً عن تبديلها عندما تصبح غير قابلة للتعامل نهائياً".