لا زلتُ منذ زمن أعجب من بعض الكتابة التاريخية العربية التي تتخذ موقفاً تمجيدياً كاسحاً تجاه التاريخ العربي الإسلامي بشكل عام. فهي تضحّي في أحيان كثيرة بالنسبية التاريخية في التعامل مع أحداث جرت قبل قرون، ومراجع وثّقت هذه الأحداث، أيضاً قبل قرون، بوحي من انتماءات سياسية وأيديولوجية، لعل أهمها الحسّ القومي العربي الذي ما زال مهيمناً ثقافياً على الرغم من خفوت وهجه في السياسة المعاصرة. وهي أيضاً، وفي أحيان كثيرة، تضرب بالمنهج عُرْضَ الحائط، وأحياناً بالدقة والأمانة في التعامل مع التاريخ ومع المصادر التي عبرها تستقرئ التاريخ نفسه وأحياناً تنقلها حرفياً وتثبّتها كما لو أنها كانت نصوصاً جديدة عن حوادث قديمة.
لـ الكتابة التاريخية الحقّة منهج واضح وصريح يشمل مناحي مختلفة تتركز كلها حول الأمانة والدقة في البحث واستخدام المراجع والسرد والتبويب والتحليل والتفسير أو التأويل، وحول التقيّد بالحدود المعرفية للفترة موضوع البحث بحيث ينظر إليها من منظارها ويحكم عليها من خلال معاييرها. ولا مكان هنا للعواطف الشخصية أو التوجهات العقائدية للباحث/ة، اللهم إلا في التركيز على موضوع معيّن بسبب ارتباط قومي أو ثقافي أو عرقي، كأن يهتم مؤرخ فرنسي مثلاً بغزوات نابليون أو أن يتابع باحث مسيحي تاريخ الكنيسة أو باحثة عربية تاريخ الأمويين.
أما أن يُسقط الباحث المعاصر أهواءه وميوله على موضوع بحثه ويستعمله في تفسير تطوّره أو تأويل مساره ونتاجه فما هو من الكتابة التاريخية بشيء، وإنما ينضوي تحت لواء الفخر والتباهي أو النفي والإنكار أو العظة والمَثل، ولهذه الخطابات مكانها في الثقافة بشكل عام، في الأدب والأخلاق والسياسة، ولكنها ليست تاريخاً وإن لبست لبوسه وتمسّحت بطرقه ومنهجه.
وفي الخطاب العربي الراهن الكثير من الكتابة التي تدّعي الانتماء للتاريخ أو تستخدم أدواته في نقاشها وتتماهى معه في الظاهر وهي إلى الخطابة أو شعر المديح أو الهجاء أقرب. ولستُ أقصد هنا الكتابات ذات التوجهات العقائدية الصريحة من دينية وحزبية سياسية فهذه لا تتستر تحت رداء الموضوعية أو الحياد التاريخي، بل هي مُقرّة ومعترفة بميولها وتوجهاتها وتمييزها. وهي تُشرِّع هُويتها للقارئ منذ البداية وتَعِدُه بتقديم الشواهد على صحّة ادعاءاتها من ضمن المنظور العقائدي الذي يتشارك فيه ضمناً الكاتب والقارئ، فكلاهما منتمٍ وكلاهما ملتزمٌ، وجلّ ما يريدانه من عملية الاستشهاد بالتاريخ هو تدعيم ثقتهما بأحقية إيمانهما من خلال تطويع أمثلة الماضي لعقائد الحاضر وآمال المستقبل المرجو. وما لهذا يُبحث ويُكتب في التاريخ.
فالماضي، بعبارة الروائي الانكليزي ليسلي بوس هارتلي (1895 - 1972) - في بداية روايته The Go-Between (الوسيط) - "بلدٌ أجنبي، فهم يفعلون الأشياء على نحو مختلف هناك". هذه العبارة تختزل بشكل معبّر كل دلالات البعد والمغايرة والخصوصية والغرائبية وحتى الجهل واستحالة إمكانية الفهم التام للماضي الذي انطوى وأخذ معه حقائقه. والهدف من كتابة التاريخ، كما ترى كافة المدارس الحديثة، هو هدف معرفي بالدرجة الأولى يريد فهم هذا الماضي بدون التصدي لقضايا الحاضر المعاش أو المستقبل المأمول أو المستهاب. التاريخ يُكتب لذاته وللمعرفة التي يتيحها عن موضوعه التاريخي، أي القابع في الماضي. والكتابة التاريخية تتوخى عادة فهم وتحليل حادثة ما أو فترة ما أو الربط بين حوادث مختلفة حدثت في الماضي ومحاولة فهم تفاعلها مع بعضها البعض أو سرد تطوّر حياة إنسان ما أو مجموعة مدنية ما، أو - في حالة مؤرخي الفن مثلاً - عمل فني ما أو طراز ما أو أسلوب أو مدرسة فكرية ما عبر امتدادها الزمني.
أما التاريخ التيليولوجي (أي الهادف إلى نتيجة ما مقررة سلفاً) (Teleological)، بشقّيه الديني والماركسي التقليدي، فقد أثبت تقريرية منهجه وفقد حظوته التي أضفاها عليه مفكرون عمالقة انتموا للعقائد التي روّجت له. وهو اليوم قد انحصر في مجالاته الأيديولوجية ضّيقة الأفق عاجزاً عن إقناع من ينتمي لأيديولوجيته نفسها بصحة ادعاءاته. ولكن بعض المؤرخين المحترفين ما زالوا يتخذون من التاريخ الهادف منهاجاً، حتى من بعض أولئك الذين لا ينتمون للمدرسة الدينية أو الماركسية التقليدية. فهم ما زالوا يرون في التاريخ المؤدلج مثلاً وقدوة كما في حالة المؤرخين القوميين مثلاً الذين يعتقدون سلفاً بأن التاريخ العربي إيجابي حُكماً وواقعاً في معرض بنائهم للهوية القومية المتعالية حتى أنهم يتعاملون مع المراجع التاريخية بانتقائية عجيبة تتوخى الإيجابي في ما تثبته والتشكيك بصحة ما ينظرون إليه على أنه سلبي فيها بل ونفيه أحياناً.
بل إن الأمر يتعدى ذلك في بعض الأحيان للدخول في سجال عقائدي، عروبي الهوى غالباً أو عروبيه/إسلاميه، يُطالب فيه كاتب المصدر التاريخي، الذي عاش في زمن مختلف وفي ظل ظروف مغايرة للحاضر، بالوقوف صفّاً واحداً مع القضايا المعاصرة الملحة والآنية وبالانتباه للمطبات التي يزرعها أعداء الأمّة العربية الحاليون على درب وعيها بعظمتها وعظمة تاريخها.
ويبدو أن الدهشة التي يُعبّر عنها بعض الكتّاب العرب المعاصرين حقيقية وصادقة عندما يفاجأون بموقف مغاير يتخذه أحد مراجعهم من قضيةٍ حُسم الصحيح والباطل فيها من وجهة نظر الحسّ القومي أو الوطني المهيمن، بغض النظر عن اختلاف الأزمان وتباين الأهواء والمشارب بل وحتى تغيّر وسائل التعبير وأدواته ومفرداته. فالمرجع التاريخي الذي مات منذ قرون ليس مطالباً فقط بإظهار الإيجابي وقمع السلبي، من وجهة نظر معاصرة بالطبع، بل هو مطالب أيضاً بأن يشارك الأمّة همومها وقضاياها وأن يتخذ منها موقفاً عقائدياً معاصراً. وفي هذا عنت كبير.
فالعقلية السائدة في أيّ زمان هي التي تحكّمت بحركة الكتابة التاريخية في زمانها، وتبقى مهمة المؤرخ الحديث كشف هذه العقلية وتحليلها وربطها بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية حولها، لكي يفهم القارئ تأثيرها على الأحداث حولها في سياقها هي، وتأثيرها على سرد المراقبين المعاصرين لتلك الأحداث الذين انفعلوا بتلك العقلية وتفاعلوا معها ومن ضمنها تفاعلهم مع الأحداث التي وثّقوها.
وليس للمؤرخ المعاصر عمل في تقريظ تلك العقلية أو في ذمّها أو تقويم اتجاهها، فهي نتاج زمنها وهي جزء متكامل من التاريخ نفسه الذي يسرده، ولا تحمل في ذاتها اليوم أي دلالات إيجابية أو سلبية بمعايير العصر الحاضر لأنها ببساطة لا تمت له.
ومن نفس المنظور النقدي، لا يحق للمعاصرين إسقاط عقليتهم السائدة اليوم على أحداث الأزمنة الغابرة أو الحكم عليها بمعايير اليوم، أو رؤية الماضي من المنظور المعرفي الحديث، أو التعامل معه بمصطلحات الحاضر، أو حتى محاسبة شخصياته من خلال المعايير السياسية والأخلاقية والعقائدية الحديثة، حتى تلك التي اكتسبت مؤخراً صفة العالمية. فهذه الأمور، بالإضافة إلى كونها مجحفة ولاتاريخية، فهي كذلك غير منطقية على الصعيد المنهجي. وعلى الكتابة التاريخية العربية تجاوزها واستلام زمام كتابة التاريخ العربي من يد الاستشراق، الذي ما زال اليوم وبعد قرنين من ظهور الكتابة التاريخية العربية الحديثة ونصف قرن من نقد إدوارد سعيد له، مسيطراً على السرد الحديث للتاريخ العربي.
* مؤرخ ومعماري مقيم في الولايات المتحدة