شارل ديدييه.. في صحراء السويس نحو الحجاز عام 1854

29 فبراير 2020
قوافل بخليج السويس في بداية القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -
يحيط الرحالة الفرنسي شارل ديدييه (1805-1864) رحلته التي قام بها عام 1854، رفقة إنكليزي من القاهرة عبر صحراء السويس ومنها إلى جدة ثم مكة المكرمة، بكثير من الغموض، حتى إنه يدعي في مقدمة كتابه أن الرغبة في القيام بها لم تكن لتخطر على باله.

إنه يدعي أنه جاء إلى الشرق بحثا عن الطمأنينة والنسيان، بعد أن كره، على حد تعبيره، باريس وفرنسا وأوروبا كلها. وربما قد يكون في كلامه بعض الصحة، ذلك أنه سينهي حياته منتحرا عام 1864 في باريس.

وقد أثنى على مقامه في القاهرة، ووصف الشتاء الذي قضاه فيها بأنه من أروع الشتاءات، ظلت "ذكراه متمكنة في نفسه". ثم لما كان يحضر نفسه للعودة إلى أوروبا، سيجد نفسه، وعلى عين غزة، مندفعا إلى مغامرة جديدة، عندما التقى أحد البريطانيين، الذي عرض عليه فكرة القيام برحلة إلى جبل سيناء، ومنه إلى الجزيرة العربية، بهدف لقاء شريف مكة.

وتزداد الغرابة بأن ديدييه لم يحتج إلى أكثر من أربع وعشرين ساعة لحسم أمره حسب الاتفاق مع البريطاني، لكن نزوع المغامرة الذي يسكنه جعله يوافق على عرض رفيقه في السفر بعد مضي ساعة واحدة فقط.

هذا هو الإطار "الصدفوي" العام الذي يرتبط برحلة شارل ديدييه إلى الجزيرة العربية. ومن الطبيعي جدا أن هذا الأمر مجرد اختلاق، ذلك أنه بالرجوع إلى سيرة الرجل، نكتشف صلاته الواسعة في الدولة الفرنسية، وعلاقاته المتشعبة، بل إنه يحظى حتى وهو في مغامرة رحلته، باستقبال حافل من قبل القناصل الفرنسيين، ويوصى به، حتى يجد الترحاب والعناية والقبول

الذي يريده.

وقد وقف مترجم الرحلة محمد خير البقاعي على هذا الأمر حين قال "يمكن أن يصدق المرء للوهلة الأولى ما يدعيه ديدييه، ولكن حياة الرجل واطلاعه على الأحداث الدولية، واهتماماته السياسية، وارتباطه القوي بهويته المسيحية، وكرهه الشديد للإمبراطورية العثمانية، ولكل من يرتبط بها (محمد علي وأتباعه)، وانعكاس ذلك الكره الذي ينقلب في بعض الأحيان إلى عنصرية، كل ذلك يجعلنا نتساءل عما سميناه ملابسات الرحلة.

لقد سبق لديدييه أن تولى مهمات سياسية لصالح بلده كما رأينا في أطوار حياته، وليس بالغريب أن تسند إليه مهمات أخرى.

وغير مستبعد تماما أن تكون فرنسا قد دفعت بعيونها إلى المنطقة، بعد أن استشعرت انحسارا شديدا لنفوذها، لصالح البريطانيين، الذين بدأوا في إحكام سيطرتهم على منطقة الشرق الأوسط والجزيرة العربية، وبالتالي وجد نابليون الثالث نفسه في وضع حرج جدا، وكأن المنطقة توشك على أن تخرج من بين يديه لصالح قوة جديدة لا تتراخى في مقارعة العثمانيين وإقامة اتفاقات معهم، بدأت تجارية واقتصادية لتنتهي بنزال عسكري متعدد الجبهات، سيؤدي إلى تفكك إمبراطورية الرجل المريض.

يتميز ديدييه بدقة الملاحظة، والقدرة على التقاط التفاصيل، وقد دوّن مراحل تلك الرحلة مرحلة مرحلة، وقدم رسما جميلا لرحلته تلك، تفيد من كل الجوانب. كما تكشف الرحلة أيضا عن معرفة واسعة بالمنطقة ودربة، متأتية من رحلات سابقة، ومن دراسة تاريخية وسياسية ودينية وأنتروبولوجية للإقليم الذي تحركت فيه رحلته.

يكتب "يفصل القاهرة عن السويس صحراء مساحتها 100 ميل. كان الناس في الماضي يخشونها، إما بسبب انعدام الماء فيها بتاتا، وإما بسبب البدو الذين كانوا ينهبون القوافل فيها.

ولكن مظاهر الحضارة دخلت الصحراء، فلم يعد من المناسب معه إطلاق اسم الصحراء عليها، فقد قامت حكومة محمد علي الحازمة بتطهيرها من اللصوص الذين كانوا ينتشرون فيها، وانتشر الأمن فيها انتشاره في طريق باريس في فرساي، بل ربما أصبحت أكثر أمنا منها.

ثم إن إدارة العبور (الترانزيت) المكلفة نقل الأمتعة والركاب إلى الهند عبر مصر أنشأت لهذا الغرض طريقا، وسيرت عليه العربات، وأقامت محطات (مراكز) بريدية بلغ عددها خمسة عشر مركزا، زودتها بماء النيل الذي يباع بأسعار مرتفعة، وأهم تلك المراكز هي الرابع والثامن والثاني عشر، والثاني على وجه الخصوص، وتعد تلك المراكز مجموعة من النزل.

نعم أيها القارئ، إنها نزل في قلب الصحراء، وسيكون التحول في هذه المنطقة جذريا عند الانتهاء من أعمال سكة الحديد التي يجرى العمل فيها لإتمام السكة المقامة بين الإسكندرية والقاهرة، والتي تسير القطر عليها منذ زمن. وستربط السكة الجديد البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط بانتظار أن يأخذ شق القناة في المستقبل بيد مصر القديمة إلى مصير جديد".

يصف ديدييه التغير المقبل الذي سيلحق مصر، وهو تغير دراماتيكي بكل تأكيد، ستساهم فيه المواصلات الجديدة، من سكة حديد وتعبيد الطرق وظهور أعمدة الهاتف. وهو كما سبق أن أشار إلى ذلك، بقدر ما ساهم الأمر في تيسير التنقل والجولان بقدر ما غير من هوية المكان الأصلي، حتى إن الصحراء التي كانت مرهبة لم تعد كذلك، وأصبح بالتالي لزاما النظر في الاسم الذي يمكن أن نطلقه عليها بعد أن اختفى ذلك السحر القديم أو أوشك على الانطفاء.

وتحسبا لذلك، وحتى لا يمر من المكان مرور الكرام، فقد اختار ديدييه عدم استعمال وسائل النقل الجديدة تلك، فهو لم يكن في عجلة من أمره، حتى إنه اختار وسيلة نقل تقليدية، على خيول وجمال، كما كان يفعل الرحالة قبله. ولم يكن يهمه أبدا أن يربح الوقت، فذلك آخر ما يفكر فيه رحالة مغامر يسعى لأن يعيش تجربة السفر بكل مفاجآته.

وهكذا كان تموين الرحلة على الشكل التالي "كانت قافلتنا صغيرة تتألف من أربعة من الأعيار، ومن عشرة جمال لازمة لنقل خدمنا وعددهم خمسة، وكانت أمتعتنا ذات حجم مقبول، لأننا مقدمون على رحلة طويلة، وينبغي أن نحمل معنا كل لوازمنا من خيام وأسرة، وسجاد ومؤن من كل الأنواع، والنبيذ وحتى الماء، كان ينبغي أن نحمل كل شيء، حتى آنية الطعام وأدواتها ولوازم الطبخ".


وحشية عباس باشا

يعرض ديدييه لوحشية عباس باشا وبطشه عند مروره بقصر العباسية، وكيف أن هذا القصر الفخم الذي بناه الخديوي على حدود الصحراء ليكون سكنا له، ومرتعا لملذاته ورذائله، قد لقي فيه حتفه، حينما قام شابان كان يقومان على خدمته بخنقه ذات ليلة، واختفيا عن الأنظار، لكن تقرير الطبيب الشرعي زيف الحقيقة وأكد أن السبب هو نزيف دماغي. يقول "وقد كان من آخر ما قام به في حياته، بل ربما كان آخر أعماله، أنه أخاط شفتي خادم مسكين من خدم حريمه ارتكب خطأ بسيطا، ولم ينقذ موت ذلك الحاكم الفظ الخادم المسكين، الذي قضى نحبه هو الآخر جوعا بعد ساعات من موت سيده، وقد كان قبل ذلك قد أمر خدمه بذبح أحد المساكين أمام عينيه، لأنه كان يجري قرب سيارته ليسلمه عريضة، لأن عباسا كان يخاف من كل شيء،

ويشك في كل الناس".


أبراج لاسلكية

يقبض ديدييه على هذا التغير "الحضاري" الذي يلحق بمنطقة الشرق الأوسط، وقد تبدت المعالم الأولى من القاهرة، وصحراء السويس، التي كانت في الماضي خطرة على عابريها، لتصبح اليوم منتهكة وتعج بوسائل النقل المستجدة. لقد انتصبت الأبراج اللاسلكية لتعلن نهاية زمن العزلة ودخول المنطقة في مرحلة جديدة، ستكون أعنف في السنوات القريبة التي تلت.

يكتب "ولما كان انطلاقنا قد تأخر، فقد ضربنا الخيام في نهاية النهار قرب المحطة رقم 3 على ست مراحل فقط من القاهرة، وبالتحديد تحت برج اللاسلكي الذي أنشئ في هذه المنطقة بالإضافة إلى عربات النقل، وورديات النقل، والفنادق ووسائل أخرى من وسائل الحضارة الغربية التي تجعلك تحس بالغربة، والتي تزيل بهاء صحراء السويس.

إلا أنه ورغم هذه المظاهر المزعجة، ومن وجود المحطة، لم يكن هناك أحد لتعكير صفو العزلة، وكان الصمت مطبقا. أما سلسلة المقطم الحجرية التي تسير الطريق على امتداده بمحاذاتها، والتي تمتد على يمينه من النيل إلى البحر الأحمر، فإنها كانت بلونها الأسود متباينة كل التباين مع الخلفية المضيئة لغروب متلألئ.
رمل الصحراء زهري اللون، وكان هدوء المساء يعلن بجلال نهاية يوم هادئ، ويرهص بليلة لن تكون أقل هدوءا، إلا أن الهواء كان باردا، باردا حتى إنني وجدتني مدفوعا إلى ارتداء البرنس الصوفي الفضفاض الذي كنت قد اشتريته ذلك اليوم من سوق القاهرة".


نساء وعبيد وقوافل جمال

يبرع ديدييه في التقاط التفاصيل، ويضعها ضمن القالب المشوق الذي يريده. لقد كان يعرف تماما أن ما يكتبه ليس موجها للقارئ العربي، بل لقارئ آخر في باريس. من سماته ربما أنه أرستقراطي ويحب أن يتسلى على هذا النوع من الكتابات "الإكزوتيكية"، التي تنظر إلى الآخر وكأنه غابة استوائية متوحشة لم تخدش عذريتها الحضارة.

يكتب مثلا "كان هناك منظر أكثر إثارة للاشمئزاز، إنه منظر جيف الجمال المنتشرة على الطريق، بعضها أكلت الحيوانات اللاحمة نصفها، وبعضها الآخر أفسدته الشمس. عندما يصل الجمل إلى مرحلة الإرهاق يسقط بما يحمله، ولا تستطيع قوة إنسانية أن تجعله يقف على قدميه ثانية، عندئذ يوزع حمله على الجمال الأخرى التي ما زالت تحتفظ بقوتها، ويترك الجمل لمصيره المحتوم: يموت من الجوع في المكان الذي سقط فيه، ويصبح بعد موته بقليل طعاما

للضباع والنسور.

تلك هي النهاية الحتمية لذلك الحيوان الأثير الذي يصلح كل الصلاحية للمكان الذي ولد فيه. وبعد أن رأيت هدوءه وشجاعته وخضوعه فإنني أسميه بكل طيبة خاطر: شهيد الصحراء وليس سفينة الصحراء.
لقد صادفنا في ذلك اليوم وفي الأيام التي تلته عددا من القوافل القادمة من الحجاز وهي تحمل الصمغ والتمر الهندي والرقيق الذي يؤتى به ليباع في سوق القاهرة، وكان هؤلاء المساكين مربوطين مثنى مثنى على الرحال، وكانوا في ميعة الصبا، لونهم أسود يتفاوت في شدة السواد، وقد جيء بهم من حدود دارفور، ومن الحبشة، وكان التجار الذين يسمون (جلاب) يأتون بهم أولا إلى جدة عبر سواكن والبحر الأحمر، ولا يحملون إلى مصر إلا أولئك الذين لم يستطيعوا بيعهم بسعر رابح في الجزيرة العربية.

وكانت في إحدى تلك القوافل امرأة من سكان مكة المكرمة كان ترتدي ثيابها الفاخرة التقليدية، كانت على ظهر جملها تعلو عن الأرض سبع أقدام، وتحميها من الشمس مظلة بيضاء كبيرة، وكانت محجبة بإحكام كما ينبغي على أية مسلمة ملتزمة. ومع أنها جاءت من مكة المكرمة، وولدت فيها، فإنها لم تجد حرجا من الكشف بإدلال عن وجهها عندما مرت بنا، لقد كانت جميلة
وشابة. لقد كان فيما فعلته مخالفة دينية، ولكن ما يغفر لها ذلك هو أننا من (الجاورين) الكفار.

ولا بد من الإشارة لكي تكتمل لائحة المقابلات في ذلك اليوم، إلى عمال البريد الذين كانوا ينهبون الطرق تاركين العنان لخيولهم التي كانوا يستبدلونها بسرعة في كل محطة، وكانوا يقطعون المسافات بينها بسرعة، كانوا يسبقوننا أو يمرون بقربنا بسرعة البرق فلا نكاد نراهم حتى يختفوا عن الأبصار. تسير الجمال بسرعة أقل، ولكن إلى مسافات أطول.

كانت أعيارنا القوية تسبق الجمال التي لا تقطع إلا ميلين أو ميلين ونصف في الساعة، لذلك توقفنا في منتصف النهار للاستراحة وانتظار القافلة، لقد بدأنا ونحن مستلقون على الرمال على قارعة الطريق الرئيسي بالإعداد لتناول غذاء تقشفي، كان يعتمد أساسا على البرتقال الذي اشتريناه من البائعة المسكينة في المحطة رقم 4، وكانت أسراب الغربان والصقور الآتية من المقطم تحوم فوق رؤوسنا، مستعدة كل الاستعداد وقد نفد صبرها، لكي تنقض على فضلات طعامنا، مع أنها قليلة".

دلالات
المساهمون