عبّر الطليعيون الروس منذ نهاية القرن التاسع عشر عن روح جديدة لمجتمع كان لا يزال بعيداً جداً عن الحداثة والتحديث في أوروبا، وبطبيعة الحال التقوا مع الثورة البلشفية عام 1917 على ضرورة التغيير الذي وضع الشيوعيون قيوداً له، بينما هم أرادوه بلا حدود لتفكيرها ونهايةً لتجريبهم.
من بين هؤلاء، سَتَبْزغُ ناتاليا غونتشاروفا (1881 – 1862) التي ستتلقّى تدريباً على النحت والرسم بما يوازي ما يتعلّمه الطلبة في معهد موسكو الذي كانت المرأة محرومةً الالتحاق به، على غرار العديد من المؤسّسات الفنية الرسمية آنذاك، التي تحرم النساء من الحصول على شهادة معترف بها.
حتى الثامن من أيلول/ سبتمبر المقبل، يتواصل في "تيت مودرن" في لندن معرض يستعيد أعمال الفنانة الروسية والذي افتتح في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو الماضي، في محاولة لاستكشاف تجربتها التي لم يُلتفت لها كثيراً رغم خصوصيتها.
الاحتفاء الأوروبي بمعظم الفنانين الروس يأخذ بعداً أيديولوجياً، إذ يركّز على أقدارهم التراجيدية عادة، التي انتهت بالنفي أو الاغتيال أو العزلة والصمت، وفي استعادة غونتشاروفا التي تحدّت الرقابة في بلادها أيام القيصرية حين تمّت محاكمتها لأنها رسمت موديلات عارية، ثم ستعاد الكرة إبان الشيوعية حين أعادت عرض مئات من تلك الرسومات.
تأتي أهمية المعرض لأن أهم ما رسمته الفنانة تركته وراءها في موسكو، وظلّت أعمالها مبعدة عن المتاحف الحكومية حتى عام 2013 حيث أعيد عرضها بعد نحو مئة عام، بينما كانت تبحث في منفاها الباريسي عن لقمة العيش فصمّمت الأزياء وأغلفة الكتب والديكور لأعمال مصمّم الباليه الروسي سيرجي دياجيليف بشكل رئيسي، رغم أن حضورها في المشهد الفني لم يتراجع تقديرا لريادتها.
اهتمّت غونتشاروفا بمواضيع ظلّت تعتبر تقليدياً فضاءً للفنانين من الرجال، حيث اهتمامها بإعادة تصوير المشاهد الدينية - ضمن رؤية جمالية علمانية متحررة من الثقل المألوف في التعامل مع الموضوع المقدس - وبيوميات الفلاحين التي انفتحت جزئياً على الحياة المعاصرة، وكذلك في رسم بورتريهات لنساء بكلّ ما تظهره أعمالها من قوة في ضربات الفرشاة وجرأة في اللون، فأثارت أعمالها الجدل والملاحقة والمحاكمة.
ومنذ عام 1913، سيصعد نجمها في روسيا حين أقامت معرضها الفردي الأول لتضع اسمها في مقدّمة الحداثة الفنية، وعلى رأس الحركة الطليعية متفوّقة في تلك الفترة على معاصريها من أمثال فاسيلي كاندينسكي وبافيل فيلونوف وميخائيل لاريونوف الذي سيرتبط به رحيلها.
ستأخذ الفنانة مساراً راديكالياً في تقديم أفكارها الفنية في محاولة لتكريس نضج في الفن الروسي الذي كان مستلباً بالكامل لتقاليد الحداثة الأوروبية، وجنباً إلى جنب طوّرت مع لاريونوف "الرايونيزم"، وهي حركة انبثقت عن التكعيبية والمستقبلية، تتخطّى التجريد عبر القول إن العين لا ترى شيئاً إلا ما تعكسه الأشعة المنبعثة منها.
في طروحاتها هذه، شكّلت حالة موازية لتنظيرات زميلها كازيمير ماليفيتش التي كان منطلقها وأساسها الفن فلم يجد نفسه خارج التزام المدرسة الواقعية التي فرضها النظام الشيوعي، بل معارضاً لرؤاه الاجتماعية والسياسية التي ستنتهي به محاصراً معزولاً، لكن غونتشاروفا ستنجو بنفسها وتغادر إلى المنفى وتحقّق هناك قدراً من التوازن في حياتها الشخصية والفنية معاً.