كمال بُلّاطه: الطفولة في سرّة الأرض

19 اغسطس 2019
(كمال بُلّاطه طفلاً في القدس)
+ الخط -

"لم يكن يغيّرُ تقانةً، بل كينونةً"/ جون بيرغر في مقالة "شاكر أحمد والغابة"


لاحظت الناقدة جين فيشر في مراجعتها لكتاب كمال بُلاّطه "الفن الفلسطيني: من 1850 إلى الحاضر" أنَّ مِن بين "أكثر رؤى بُلاّطه إدهاشاً رؤيته أن بوتقة الحداثة الفلسطينية يجب العثور عليها في تعريب وتجنيس فن الأيقونات البيزنطي". ولكن بُلُاّطه نفسه لم يتبع هذا المسار.

بدلاً من ذلك، حرّضته الأيقونة الأرثوذكسية على الرحيل على طريق يؤدي إلى منوعات التجريد بعيداً عن تزايد تجنيس الفن التشخيصي، إلى تقطير المنظور غير الخطي الماثل في صميم وجود فن الأيقونات الأرثوذكسي، لخلق تعبير فنّي حديث مختلف اختلافاً راديكالياً عن تعبير الفنانين الفلسطينيين الذين يحلل أعمالهم في كتابه. فلماذا سلك طريقاً مختلفاً مثل هذا؟

لاحظ بلُاّطه عدة مرات أن غريزته الفنية شكلتها ثلاثة أساليب إبداع فنّي تعايشت في القدس حيث ولد ونشأ: الأيقونة البيزنطية وفن الخط العربي والزخرفة العربية. ولم يتحدث بالتفصيل عن دور الأيقونة الأرثوذكسية إلا حين أشار إلى أن أول دروس تلقاها في الرسم كانت على يد رسام الأيقونات خليل الحلبي، الرسام الذي علّمه كيف ينظّم المسطحات المتعددة لأيقونة باستخدام شبكة خطوط متعامدة.

ويشير بُلاّطه، في فصل "التنقل بين الأيقونة الدينية والأيقونة الدنيوية"، إلى "المنظور المقلوب" (منظور بصري يتّسم بتشعب خطوط متوازية وتصاغر الأشياء إزاء المشاهد) أيضاً الذي التقطه من مؤرخ الفن البيزنطي، أندريه جريبر، الذي سكّ هذا التعبير أستاذه ديمتري آينلوف في بطرسبرغ أوائل القرن العشرين. وتتردد أصداء قرابة بُلاّطة الحدسية والمفاهيمية، بالمنظرين والفنانين الروس في أوائل القرن العشرين في أعماله الفنية.

هنا أود أن أستكشف المزيد من صلات التجريد الحديث والأيقونة الأرثوذكسية في أعماله الفنية على هدي مناقشة بُلاّطه للصلات بين الرسم الأوروبي المعاصر والفن الغربي. وللقيام بهذا، سأركز على القدس، المدينة التي منحته طريقة في رؤية وتجربة العالم جمعت بين القديم والحديث، وطرحت على الحاضر القائم تحدياً.


■ ■ ■


كانت المدينة القديمة في القدس بمجملها مختبر أعمال هندسية. فمن فوق سطح بيت العائلة يمكنك رؤية قبة كنيسة القيامة العالية، والقبة الأدنى منها المسطحة فوق القبر المقدس، المبنى المقبب المعروف باسم "نصف الدنيا" (سرّة العالم أو الأرض) المحجوب جزئياً ببرج جرس كنيسة صليبي عمودي. وإلى اليمين على مبعدة، يقع مسجد عمر الذي بني احتفاءً بالبقعة التي من المعتقد أن الخليفة عمر ركع وصلى فيها مبتعداً بعداً مقصوداً عن القبر المقدّس حين تسلّم قرار استسلام المدينة من بطريقها صوفرونيوس في عام 637 ميلادية. وتنقط المساجد والكنائس مدينة القدس القديمة، وتضفي معرفة أسمائها شيئاً من النظام على التراكمات والانتهاكات التي تحل بكيان المدينة العضوي.

في هذا الجو، أدخل والد بُلاّطه ابنه منذ مستهلّ حياته في عالم كلماتٍ آخر ذي صلة أيضاً بإحساس شعائري ديني بالمكان والجماعة. فقد اعتاد يوسف بُلاّطه منذ أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وكمال ما زال يعيش في بيت العائلة، التخطيط لتتوافق صَلاته ظهراً في منتصف النهار مع متعة جمالية مصدرها الإصغاء إلى تلاوة القرآن في المذياع. وآنذاك كان يسود الصمتُ البيتَ المبني من الحجر، ولا يجرؤ أحد على مقاطعة الصوت الملحَّن وهو يتغلغل في الفضاء الهادئ. كان هذا ما يزال عالم مذياع، ولم يصبح عالمَ مكبّر صوتٍ بعد.

كان صوتُ المؤذن الصافي يرفع الأذان الداعي إلى الصلاة، وتقرع الأيدي أجراس الكنائس ولا تذاع من تسجيلات. وكانت ذكريات كمال السماعية المبكرة ذكرياتٌ مكانية أيضاً، لأن مؤذن كل مسجد في الحي كان يكرر خمس مرات في اليوم التأكيد على جوار وعلاقة وهو يعزّز بصوته المميَّز شكل المدينة. ويتردد من حي إلى حي صدى "الله أكبر" ناشراً صوتاً يزخرف أنحاء المدينة.

كان المسيحيون جزءاً من هذا الفضاء، فهم يشاركون جيرانهم المسلمين تقدير جماليات اللغة العربية. واعتاد والد كمال على رواية قصة حدثت حين اشتكى فيها مسيحي يعيش في الحي الإسلامي لدى إدارة الأوقاف مؤذناً جرى تعيينه حديثاً بسبب عدم جمال صوته، فاقتنعت الإدارة ونقلت المؤذن بعيداً عن الأسماع، وأحلت محله مؤذناً أكثر حساسية تجاه جماليات الأذان. وبفضل هذا التشكل المبكر فهم كمال معنى المكان والجماعة عن طريق جمال اللغة العربية، ولغة القرآن بخاصة.


■ ■ ■


تتيح لنا رؤية أعمال كمال بُلاّطة الفنية من زاوية أرثوذكسية التبصر في لغته الفنية، ليس في سياق الفن الفلسطيني والعربي فقط، كما هي الحالة المعتادة، بل كمساهمة في التجارب الراهنة على مستوى العالم، ومبعثها الأزمات السياسية والصدامات الثقافية التي أطلقت شرارة الفن التجريدي في أوائل القرن العشرين، وفي موسكو قبل أي مكان آخر، حيث حفّز منظور الأيقونة غير الخطي، على إحداث تغيير إبداعي جذري.

وتكمن الصلة الأقوى بين بُلاّطه وفناني أوائل القرن العشرين في إصرارهم على تعدد المستويات في اللوحة، وتمسكهم بتعدد المراكز، ونبذهم للمنظور الأحادي والثبات، وكلاهما يُفرض فرضاً على المشاهد بصرياً وروحياً.


* Elizabeth Key Fowden ناقدة إنكليزية وأستاذة في جامعة كامبريدج، والمقاطع من دراسة لها ضمن كتاب "Uninterrupted Fugue" الذي يصدر قريباً عن دار هيرمر (Hirmer) المختصة بالكتب الفنية، ويضم دراسات حول تجربة كمال بُلّاطه لمجموعة من كبار الباحثين.

** ترجمة محمد الأسعد

المساهمون