يصف الفنان الفلسطيني كمال بُلّاطه (1942 - 2019) الضوء كمصدر ومحور رئيسي في أعماله الفنية، بل حتى في الأماكن التي سكنها من القدس إلى روما وبيروت وواشنطن العاصمة، وصولاً إلى المغرب وباريس وجنوب فرنسا وبرلين.
لكن أكثر مدينتَين عاش فيهما، على الأقل جسدياً، كانتا واشنطن لخمسة وعشرين عاماً والقدس لقرابة عشرين عاماً. وفي وصفه للضوء ودوره يقول في إحدى المقابلات المتلفزة: "لقد لعبت تجربة الضوء وخلال كل حياتي مع الرسم دوراً مركزياً في أعمالي. لقد كانت السماء المفتوحة وجودة الضوء في واشنطن العاصمة هي التي أغرتني بالعيش هناك لخمسة وعشرين عاماً. يمكنني قول ذات الأمر عن خيار العيش في المغرب لأربع سنوات ولاحقاً في جنوب فرنسا لخمسة عشر عاماً. ربما كان الضوء في القدس، هو ما كنت أبحث عنه لاستعادته طوال هذه المدة".
واشنطن التي سحرته سماؤها وعاش فيها بين 1968 و1992، كانت مسرحاً ومنبعاً مهمّاً لعدد من الأعمال التي أنتجها بُلّاطه، ليس فقط فنياً بل كذلك أكاديمياً، ناهيك عن تأثيره بالحركة الفكرية والفنية فيها وفي الولايات المتحدة عموماً.
كانت بداية بُلّاطه الجامعية في أكاديمية الفنون الجميلة في روما (1961 - 1965)، ثم في واشنطن في "كلية كوركوران" التابعة لمتحف الفنون الجميلة بين الأعوام 1968و1971. كان باحثاً ومؤرّخاً ذا معرفة موسوعية إلى جانب كونه فناناً فذاً.
ويصفه الأكاديمي الفلسطيني الكويتي شفيق الغبرا في كتابه "حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات"، والذي تعرّف إليه في واشنطن: "بحسّه المرهف وثقافته الواسعة لا يقوى على سماع آراء ثابتة، بل يحبّ التساؤل، والمراجعة في كل شيء. لا مسلّمات، لا ثوابت، لا خطوط حمراء، لا عادات، لا تقاليد. النقاش معه يفتح الآفاق لكل أنواع المعرفة والتساؤل. ويرى كمال العالم بعيون شاعرية وثقافية وإنسانية. ولهذا فالنقاش معه يستمرّ لساعات خارج الفصل. إنّه من أكثر من التقيتُ بهم في تلك المرحلة تعمُّقاً في الفلسفة وفرويد، والتحليل النفسي والإنساني للظواهر، ومن أكثرهم تتلمذاً على فكر أدونيس. بل تعرّفت في البداية إلى أدونيس و"الثابت والمتحوّل" من خلال كمال. كما تعلّمتُ من كمال ذلك الحب الكامن للجديد وللمعرفة والتساؤل".
من جانب آخر، يشير بُلّاطه في مقابلات معه إلى تأثّره بالتراث البيزنطي والإسلامي، وعلاقته باللغة والحرف، وهذا واضح وجليّ ليس فقط في أعماله الفنية بل كذلك في اهتماماته البحثية والأكاديمية، كما نشاطه والتزامه بقضيته الفلسطينية والقضايا العربية، فرسم الملصقات السياسية والاجتماعية كما أغلفة المجلّات، ومن بينها "مواقف"، وصمّم رسومات ديوان محمود درويش "أحمد العربي".
انتقل إلى بيروت عام 1974 لفترة وجيزة؛ حيث عُيّن كمدير فنّي في "دار الفتى العربي" التي أطلقها "مركز التخطيط الفلسطيني" في بيروت. وصمّم المطبوعات التي صدرت عن الدار في السنوات اللاحقة. لدى العودة إلى واشنطن، أسّس مع هشام شرابي وأدونيس "المؤسّسة العربية الأميركية الثقافية".
خلال تلك الفترة، وبالإضافة إلى تدريسه للفنون في "جامعة جورج تاون"، صمّم بُلّاطه عدداً من الملصقات المتعلّقة بالقضية الفلسطينية والعالم العربي، كما صمّم عدداً من الرموز لمؤسّسات فلسطينية وعربية في الولايات المتّحدة، وكان من المواكبين والفاعلين في حركة النهضة العربية التي شهدتها أميركا الشمالية، هو وعدد من المهاجرين والأكاديميين العرب الذين درسوا في واشنطن وتحديداً في "جامعة جورج تاون"، من بينهم هشام شرابي وحنا بطاطو وحليم بركات.
كانت هذه الجامعة واحدة من أهم المعاقل في الولايات المتحدة لحركة فكرية وأكاديمية، وقد تأسّس فيها عام 1975 أوّلُ مركز للدراسات العربية المعاصرة في الولايات المتحدة، والذي أصبح بمثابة مظلّة للعديد من النشاطات الفكرية والفنية التي أثرّت على المناخ العربي في المهجر الأميركي وحتى خارجه.
رأى بُلّاطه أنَّ الفن أو الرسم هو امتداد للحرف أو الكلمة، ووصف في أكثر من لقاء معه الكتابة كجناح لطير يوازيه جناحه الآخر وهو الفن. وخلال فترة معيشته في واشنطن أصدر أكثر من أنطولوجيا وبحْث من أبرزها أنطولوجيا بالإنكليزية بعنوان "نساء الهلال الخصيب: أنطولوجيا للشعر العربي الحديث لنساء عربيات"، الصادرة عام 1978.
كما حرّر مع ميرين غصين كتاباً عن الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي رحل في نيويورك عام 1977، وصدر الكتاب بالإنكليزية تحت عنوان "عالم راشد حسين: شاعر فلسطيني في المنفى"، ونشر أنطولوجيا، بالعربية والإنكليزية، بالتعاون مع عبد الوهاب المسيري الذي حرّر وترجم الأشعار تحت عنوان "العرس الفلسطيني: أنطولوجيا ثنائية اللغة عن الشعر الفلسطيني المعاصر"، أعد بُلاطه رسوماتها، وأهديا العمل الذي صدر عام 1979 إلى غسّان كنفاني.
يشير "المعهد العربي الأميركي"، في واشنطن، وكان قد كرّم بُلاطه عام 2017، إلى أنه كان فناناً وباحثاً ظلّ في تواصل مع الواقع، ليس فقط عن طريق فنّه وأبحاثه، بل كذلك عن طريق ربطه بين الإبداع والنشاط السياسي والاجتماعي.
في العام 1982، قبل أن يتمّ تداول مصطلح "التقاطعية" (intersectional) أكاديمياً من قبل الباحثة كمبرلي كرينشاو، كما جرت الإشارة إلى أن بُلاطه كان رائداً في خلق التضامن بين الفنانين والنشطاء في واشنطن ومناطق مختلفة في الولايات المتحدة حيث نظم في نيويورك بالشراكة مع مؤسسة "بين" أمسية وقراءة ضمّت شعراء أميركان، سوداً ويهوداً يساريين، لجمع الأموال دعماً لليونيسف. ثم انطلق منها عدد من القراءات في مدن أميركية مختلفة لنشر الوعي كذلك حول المعاناة التي تعيشها بيروت بسبب الاجتياح الإسرائيلي والحرب على لبنان. ونتج عن تلك اللقاءات أنطولوجيا لكتّاب أميركيين ضد الحرب حرّرها بُلّاطه. وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى حرّر بُلّاطه أنطولوجيا لأعمال فنية ورسومات لأطفال فلسطينيين.
ثنائية الحرف والرسم كانت دائمة ملازمة له وإن تجلت بطرق مختلفة، وإن أثرت فيه مدارس كثيرة خصوصاً الأميركية الحديثة منها، مثل "مدرسة الألوان" والتي انبثقت من واشنطن في خمسينيات القرن الماضي وعرفت انتشاراً حتى السبعينيات على الأقل، ومن روادها جين ديفيس وباول ريد. وفي واشنطن بدأ انتقال بُلّاطه للتجريدية، ومنها انطلقت رحلته مع الخط الكوفي.
يشير في إحدى مقابلاته إلى أنه، وعلى الرغم من تأثره بتيارات عديدة، إلا أن أثر التراث البيزنطي والإسلامي دائماً يحوم حول أعماله، حيث المربع الأول لمنشأه. ويقول في مقابلة متلفزة: "اطلاعي الأول على الرسم كان في كنيستنا (في القدس) حيث الرسومات البيزنطية، التي كان لها حضور ساحر وغامض. أما خارج حيّنا فكانت قبّة الصخرة والخط العربي الذي يتوّجها هما ما فتنني".
انتقل بُلّاطه من اللوحات والرسومات التشخيصية المذيّلة بحروف واقتباسات لمرحلة أكثر تجريداً بدأ فيها الحرف يأخذ شكلاً هندسياً. وفي عدد من محاضراته ومقابلاته تحدث عن المربع والدائرة كرمزَين للأرض والسماء. ومن الأشكال والهندسة بدأ يهتم بالألوان وسُلّم الألوان وفرد لها اهتماماً ومساحة أكبر مع بداية الثمانينيات. ولعل استمرار انبهاره باللون لم يكن إلا طريقاً آخر للعودة إلى الضوء المقدسي الذي تحدّث عنه في أكثر من مناسبة.
أنتج بُلّاطه واحداً من أهم أعماله البحثية، خارج واشنطن، وهو كتابه عن الفن الفلسطيني الصادر 2009 بالإنكليزية تحت عنوان "الفن الفلسطيني من 1850 إلى الحاضر". ثنائيات اللغة والشكل واللون والهندسة بقيت ترافقه، وجزءٌ من عبقريته الفنية يكمن في تطويره الدائم لنفسه وعمله. لكنه كان دائماً يعود، بوعي أو بلاوعي، كما كان يقول دائماً، إلى المنبع الأول، إلى القدس التي احتضنته وترعرع فيها، وقال إنه لم يتركها خلفه بل كانت دائماً أمامه.