كمال بُلّاطه: الحالم بالأقمار الهندسية

19 اغسطس 2019
(كمال بُلّاطه، 2013)
+ الخط -

ثمّةَ رسّامون يبدعون تلقائياً وغريزياً، كما الشعراء الشعبيين، وقلّة نادرة تجمع بين الكلمة/الخلق وفعل الخلق؛ فان غوغ ورؤاه المبثوثة في رسائله إلى أخيه ليو، وبول كلي وكتابه "نظرية الفن الحديث" ورسائله الإيطالية ودفاتر يومياته في تونس والقيروان، وبيكاسو ونصوصه التي بلغت 340 نصاً: تنظير فني، ورسائل، وشعر، ومسرح، وروثكو ومؤلّفه عن التجريدية التعبيرية. هؤلاء ورثة مايكل أنجلو وليوناردو دافينشي وما تركاه من كتابات تأسيسية؛ وهم ينتمون لما يُسمّى "L’art savant" ويمثلون الفنان العارف، رغم اختلاف عصورهم ومشاربهم ومدارسهم.

كمال بُلّاطه ينتمي إلى هذه الأرومة الفنية التي تعاني الإبداع والوعي بالإبداع؛ فالتنظير لديه ليس عملاً مدرسياً، بل إبداع مواز لمنجزه التشكيلي. كان أول نص قرأتُه له في مجلّة "مواقف" في تواز واصطحاب رسوم وتخطيطات تجمع بين دقة الهندسة وسيولة المشاعر، نص هو مزيج من شعر وفكر.

أتذكّر كانت هناك أيضاً تخطيطات لمنى السعودي. كانت أواخر السبعينيات وكان عصر انفجار فني عربي من رموزه حسن السوفي، وهو من أوائل من أدخل التعبيرية التجريدية إلى الرسم العربي، وإيتل عدنان وسيمون فتال وضياء العزاوي وفريد بلكاهية، والقائمة طويلة.

من يومها شدّتني أعمال بُلّاطه الذي يجمع بين الصرامة الهندسية والشاعرية العميقة وهو، كما تقول العرب، مَركب صعب. فنّان متجذّر في ميراثه الكنعاني والعربي المسيحي والإسلامي، فنان مأخوذ بالدقة الرياضية مع التأمُّل اللغوي... كل الناس التي لم يسعفها الحظ لمشاهدة معارضه لا بد أنها رأت بعضاً من أعماله الحروفية في كتب عبد الوهاب المسيري وفي المجلات وعلى أغلفة مجلات "مواقف" و"شؤون فلسطينية" و"الكرمل"، وعبر ملصقاته التي أنجزها لـ"المؤسسة الثقافية العربية الأميركية" في واشنطن التي كان أحد مؤسّسيها و"غاليري ألف" التابع لها، وغيرها من المؤسسات.

كان بُلّاطه يجمع بين الحدس الفني والحس الرياضي بالأشكال، كما لو كان يردّد مع بول كلي ترى بعين وبالأخرى تشعر بالأشياء... كان له اطّلاع موسوعي على عوالم اللغة والتاريخ العربيَّين.

وكانت سلسلة من الصدف خيطا سِرّيا قادني إليه؛ من سيدي بوسعيد إلى مونتريال إلى واشنطن... لقاء صدفة مع نورما سالم التي كانت وضعت بيوغرافيا عن حياة بورقيبة فجاؤوا بها إلى تونس كما لو أن إنجاز رسالة أكاديمية حدثٌ استثنائي، ولكنه عصر بناء أسطورة الزعيم. بقيت من نورما قصيدة كتبتها بالإنكليزية عن أقمار سيدي بوسعيد التي تطلع من البحر. ونورما هي التي حملتني لأستاذها عيسى بُلّاطه في مكتبه بجامعة ماك جيل في مونتريال... كنت قرأت كتابه الجميل عن بدر شاكر السياب، فأجريت معه حواراً لمجلة "المستقبل" الباريسية، وهو الذي أمدني بتليفون شقيقه كمال قبل سفري إلى واشنطن.

هكذا رمتني الصدف من سيدي بوسعيد إلى واشنطن إلى ساحة الديبن سركل بأشجارها الباسقة ولاعبي الشطرنج حول طاولاتها الحجرية في شعاع الغروب. شارع "أَم استريت" ولهب نيران أعمدة إضاءته المرتعشة تحت سماء أول الليل الفيروزية، فقد كان في الجوار آخر الشوارع التي ظلت تُضاء بالغاز، ومارتين التي لقيتها في مدخل بوكستور كريمر والتي جاءت بعد أشهر إلى تونس وذهبنا إلى الصحراء وسط قبائل البربر... وعلى لوحة نحاسية مثبّتة على بار كرايمر كُتبت أسماء الحرفاء ممن صمد وراء البار على طريقة همنغواي ولفت انتباهي اسم عبد الرحمان النجار. سألت فقيل لي مغربي مر من هنا.

غير بعيد عن ميدان ديبن سركل "Dupont cercle" كان يقيم كمال، والتقينا بعد مكالمة على التليفون، وجاء إلى الموعد وحملني إلى شقّته. أتذكر الصالون الكبير المضاء، ومكتبته التي تغطي الجدار. كان في عز شبابه، حديث العهد بالزواج، أتذكر تلك الابتسامة الوادعة وترحيبه الدافئ، وطريقته الأنيقة فالحذرة في التعامل مع الآخر، وكان حديث عن نصه في مواقف وتخريجه اللغوي لكلمة إنسان وأنها مثنّى إنس، ومن خلاله أدركت أن اللغة العربية أرقى أخلاقياً من اللغات الأوروبية التي مَنح فيها الذكر اسمه للجنس البشري؛ فكلمة "homme" الفرنسية تعني الذكر، كما تعني في الآن نفسه الجنس البشري، في حين أن كلمة إنسان العربية حيادية؛ فهي تعني في الآن المرأة والرجل على السواء.

أهداني ذاك العدد من "مواقف"، والذي ما أزال أحتفظ به في مكتبتي في تونس.. ظللت أتردّد عليه طيلة إقامتي الأولى القصيرة في واشنطن، ومرّت سنون وجاء إلى تونس والتقينا، ووجدت كمال مستمراً في مشروعه: التشكيل والكتابة عن التشكيل... واستحضرت الآبدة التي تقول: نحن نكتب دائماً نفس الكتاب... ورأيت أعمالاً لم أعهدها من قبل، أعمالا يمتزج فيها القصد بالتلقائية، لوحات تقوم على نظرة واعية بما أنها بناء رياضي، خطوط أفقية وعمودية ومكعّبات مع تلوينات متجاورة تمنح سطح اللوحة عمقاً روحياً من دون اللجوء إلى المنظورية، ألوان شفافة تمضي بالشفافية إلى أقاصيها، هندسة استشفّ كمال روحها من تراثنا المعماري في حواضر الشرق في القدس وشيراز وقرطبة وفاس، ولكن من دون السقوط في تكرار الماضي.

أعمال كمال الضاربة في الحداثة تستند إلى تراثنا الرياضي، إلى ابن الهيثم الذي يعتبره معلّمه الأول. ولسان حال كمال بُلّاطه يقول للغربيين: لدينا نحن فن يقوم على الهندسة ورموزها الكونية قبل فيكتور فازاريللي، وقبل الرسام الفرنسي من أصل روسي سيرج بولياكوف الذي يعتمد هو أيضا البناء الرياضي، وقبل الهولندي موندريان وتأليفه بين الخط المستقيم الذي يرمز للذكورة والزاوية المستقيمة التي ترمز لمبدأ الأنوثة، في وحدة كونية تجمع مبدأي الأنوثة والذكورة، الروحي والمادي، التجسيم والتجريد... في حين أن الدائرة لدى بُلّاطه هي التي ترمز للسماء والأنوثة، وهو في هذا قريب من الرموز الفرويدية.

ها هو كمال بُلّاطه يغيب وأحسّ أن لقاءً لم يكتمل، أشعر بأن شيئاً في داخلي انفصل إلى الأبد ... فقد تذكّرته في الآونة الأخيرة في مكتبة الشعر الضائع "POEZIE PERDU" في أمستردام. لمحت اسمه في كتاب ذي إخراج فني جميل هو مختارات من شعر نجوان درويش بالإنكليزية، تصفّحت الكتاب سريعاً، فوقعت عيني على قصيدة عنوانها "أوبرا إلى كمال بُلّاطه"، كان كما لو أن الأمر وداع، ووجدت نفسي أردّد في داخلي قول الشاعر: "فارقتُه زمناً ولما التقينا كان تسليمه عليّ وداعا".


* شاعر ومترجم وناشر تونسي

المساهمون