ربما تكون جدارية كوريجيو التي رسمت في "سانتا ماريا"، واحدة من أكثر الجداريات التي تركت أثراً لا يمحي، حيث تنفتح السماء عن دائرة مقدسة ذهبية، تتحلق حولها أجساد سابحة؛ رسل وقديسون وملائكة يطوفون حول هذه الدائرة المشعّة والمشتهاة، يحاولون اختلاس نظرة إلى الفردوس الذي خلفها، نعرف أيضاً أن السماء فتحت الحجب عن هذه الشمس لأن العذراء صاعدة لملاقاة ابنها؛ كما تقول حكاية اللوحة المرسومة في القرن السادس عشر.
يصعب ألا تتذكر العمل حين تقترب من الدائرة المذهبة والمقدسة التي يقدمها بشار الحْروب ضمن مجموعة أعمال معرضه الحالي "الناسك"، حيث سترى أجساداً صغيرة تسبح حولها، ويبدو لك أن هناك المئات منها، بعضها اقترب وبعضها آت من بعيد. إنهم مثل شخصيات كوريجيو، يريدون اختلاس نظرة، لكنهم أكثر بساطة وأقل قداسة ربما. يبدو الرسم أقرب إلى فكرة جدارية متقشفة، هل كان الفنان الفلسطيني يتخيل أنها تليق بقبة مسجد صغير، أو مقام بعيد زاهد بأبهة الكنائس والجوامع؟
يضم المعرض المقام حالياً في "غاليري ذا كورنر" في عمّان عدة أعمال فنية، أو لنقل عدة عناصر من تجربة جديدة للحروب، ثمة مجسم لمقامات، ورسم لدائرة الضوء المقدسة، هناك أيضاً طائر السيمرغ، كما نرى بشار نفسه سابحاً في فراغ أبيض، إنه واحد من السابحين حول الدائرة الطائفين حولها، يقربنا لكي نرى- مثلما تقترب عدسة كاميرا- حقيقة هذه الأجساد الهائمة وهو واحد منها، ساتراً جسده العاري بالكوفية الفلسطينية.
تأثر مشروع "الناسك" للحْروب، بزيارته في صيف 2018، لجزيرة جربة (جنوب شرقي تونس)، ضمن إقامة فنية، ثم عاد إليها في يناير/كانون الثاني الماضي. يُعد الموقع تاريخياً مقصداً للزيارات الدينية، يلقبه أهله بـ"مدينة المساجد والأحلام"، لكثر ما فيه من جوامع يقال إن بعضاً منها يوجد تحت الأرض أيضاً.
عن مساجد ومقامات جربة، يقول الحْروب في حديث إلى "العربي الجديد" إن أكثر ما لفته "بُعدها عن التكلف والزخارف، وانشغالها بأنها مكان شيّد ليكون موضع التأمل والروحانية وما يقتضيه ذلك من بساطة"، ولكن هل كانت هذه هي الفكرة الملهمة لـ "الناسك" فعلاً؟
يخبرنا الحْروب أنه رسم نفسه طافياً هكذا منذ عامين، ورسم "بورتريه شخصيا" له على طريقة الأيقونات المسيحية، وكذلك رسم والدته في أيقونه أخرى؛ يبدو أن الفكرة أقدم من زيارة جربة، وأن المقام جزء من الرحلة التي يعبرها الحْروب هذه المرة؛ فهو فنان تتجدد تجاربه على صعيد الأسلوب والثيمة والألوان في كل مرة؛ عن ذلك يقول "تجربتي في الفن هي بحث عن الذات وتأمل فيها، أنا نفسي لاحظت أنني منذ عدة سنوات أشتغل على الهوية الذاتية ومحاولة العزلة عما يدور في العالم والانصراف إلى التأمل في الذات، وهذا قد يعطي بعض الإجابات عما يحدث حولك في هذا العالم". يتابع "تكثفت هذه المشاريع كلها، في "الناسك"، وفيه رسومات بتفاصيل دقيقة وصغيرة، ومنحوتات المقام، والدائرة المقدسة، كلها أعمال تتجه إلى الاخترال والرسم البسيط وتصوير الشخصيات الإنسانية التائهة".
من اللافت تنوّع الخامات والقدرة عليها وعلى التعامل معها كلها، هذه المرة وفي كل تجارب الفنان السابقة، يوضح: "لقد بنيت علاقة حرة تماماً مع الخامة، لا تأسرني مادة فتصبح كل أعمالي رسم أو نحت أو غيرها، ثمة متعة مختلفة في كل مرة؛ هناك نوع من الانصهار في العمل والاندماج الكامل، تجربة تجعل من العزلة قيمة ومعنى لا يقدر بثمن؛ وهذا أحد أسباب اختياري لعنوان المعرض، لذلك هو "الناسك" وليس الصوفي، لأن المنطلق ليس دينياً أبداً، بل إنساني".
لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تناول المشروع من زاوية دينية، فالمقام ذو الباب الواحد، يصبح بأربعة أبواب في مجسم الحْروب، يقول "كل باب يدخل إلى باب، إنه مكان لا يمكن أن يغلق، مكان مفتوح بلا نهاية، ويمكن الدخول إليه والخروج منه بكل السبل. لا أعرف"، يتابع قائلاً: "ربما هو البحث عن تحرير الإنسان من الهويات التي تسقط عليه دون إرادة وقبول منه".
بالنسبة إلى فنان يعيش داخل فلسطين، المكان المليء بالرموز والسلطة والتاريخ الكبير ووزن المكان الطاغي؛ هل يحضر كل ذلك ضمن الهويات التي تحاول التحرر منها في العمل الفني؟ نسأل الفنان، فيجيب: "أعتبر نفسي متحرراً من سلطة الرمز، وأعمالي كذلك متحررة من هويتها المكانية، ووجودي داخل المكان وضعني في تحدٍ؛ أن أكون أنا عملي". يضيف: "تأثير الواقع المعاش لا بد أن يظهر، لكني أعتقد أنني تحررت من مفاهيم الرمز، يكفي أن تكون فلسطينياً لتمثل المكان وليس بالضرورة أن يكون الفن أيضاً حاملاً لرموزه".
رغم ذلك لا يمكن تصور العلاقة بين الكوفية الساترة للجسد العاري بعيداً عن الرمز، وإذا فكرنا أن الفنان الطافي في اللوحة، هو أحد السابحين حول الشمس، وأن هناك مئات البشر مثله، فماذا لو كانوا كلهم يسترون أنفسهم بالرمز نفسه، هل ستكون الشمس نقطة الخلاص التي يحاولون الوصول إليها بلا طائل؟
وماذا لو ربطنا أيقونة الحروب ووالدته، بالتضحية الكبرى، ماذا لو تأملنا وضعية الجسد المرسوم؟ هل هو المسيح، الحلاج، الشهيد، الإنسان العادي محمولاً، الإنسان العادي حالماً؟ هل بعد ذلك يمكننا أن نحرر نحن كمتلقين عمل الحْروب من رموز الهوية وإحالاتها اللانهائية؟ إننا نخوض التحدي نفسه الذي يخوضه الفنان، نحاول رؤية العمل مع الرمز ومن دونه وما بعده، نحاول أن نرى من كل زاوية رحلة الناسك إلى ما يريد.
تقف الكتب أيضاً خلف هذه التجربة، صحيح أن النتيجة بصرية لكن المصادر ليست كلها كذلك، سنلمح في دوائره وخطوطه شيئاً من كتابات المتصوفة، سيرسم أيضاً "السيمرغ" الطائر الإله عند فريد الدين العطار، سيخرجه من "منطق الطير"، من ذاكرة القارئ التشكيلي، حيث يتداخل البصري والسمعي والمقروء ويتسرّب إلى بئر جوفية تستخدم لحظة تكوّن العمل الفني، "الفن مشروع فكري وفلسفي في حقيقته"، يقول الحْروب الذي يترك آثار أصابعه على رخام مجسمات المقامات، فتبدو من بعيد طيّعة، تبدو المقامات طائراً هاجعاً، مثلها مثل سيمرغ في كتاب، ومثل جسد سابح في الفراغ.