يطرح الشعر المغربي، اليوم، أسئلةً تتعلّق بتحديث منظورات مقاربة منجزه الإبداعي، ومحاولة استقصاء أسئلة تهمُّ الخطاب الشعري في مختلف تجلّياته، وهي مداخل تفيد في فهمنا وظيفةَ الشاعر والشعر ضمن المنظومة المجتمعية. داخل هذا المشهد، تَظهر اجتهادات نقدية فردية تُفيد، على الأقل، في إعادة تمثّلنا للكثير من القضايا المتعلّقة براهن القصيدة المغربية.
تَحضر ملاحظات أساسية في الكثير من الدراسات والاجتهادات النظرية لتجارب نقدية مغربية، سواء من خلال إصدارات تُحاول إيجاد سماتٍ محدَّدة للقصيدة المغربية الحديثة، أو من خلال لقاءات وندوات علمية تُقام هنا وهناك في محاولةٍ لملامسة بعض سمات المتن الشعري في المغرب.
في هذا السياق، يرى الناقد خالد بلقاسم، أنَّ "التنصيص على علاقة الشعر بتاريخه أمرٌ ضروري للتحرُّر من تأوُّل الشعر اعتماداً على موضوعاته؛ إذ لا وجود لموضوع شعري في ذاته، وليس ثمّةَ موضوعٌ، أيّاً كان نبله وأيّاً كانت القيَم التي ينطوي عليها، يُمكن أن يهب القولَ شعريّتَه".
يضيف بلقاسم، في مقاربته لسؤال الشعر والمشترك الإنساني: "القراءات التي تتأوّل الشعرَ مفصولاً عن تاريخ الشعري لا تقوم، في حقيقة الأمر، سوى بالتواطؤ مع الكتابات التي تدّعي الانتساب إلى الشعر وهي تجهل تاريخَه"، موضّحاً أنّ الشاعر، وفق هذا المنظور، لا يكتب استناداً إلى إنصاته لزمنه وللذات وللقضايا الوجودية فحسب، بل يكتب أساساً استناداً إلى تاريخ فنّ الشعر، وبانشغالٍ بالمحتمَل المرتبط بمستقبَله، وبما يُمكن للذات الكاتبة أن تُضيفه إلى هذا التاريخ". وفق هذا المنظور، يتساءل: "كيف يشتغل الوعي بضرورة صون هذا المشترَك في اللغة الشعرية؟".
من جهتها، تعتبر الناقدة حورية الخمليشي أنَّ الشعر يرتبط بمفاهيم الأنسنة، وأنّ ذلك يتجلّى في قدرته على إيقاظ الضمير الإنساني؛ فموضوع الشعر المركزي هو الإنسان ومحاولة تحديد علاقته بالحياة والوجود، والشاعر يكتب لزمن شعري مستقبلي".
ولأن الشعر المغربي الحديث لا ينفصل عن الشعرية العربية والإنسانية التي تعيش، اليوم، تجربة الكتابة برؤية شعرية منفتحة، وعبوراً وانفتاحاً على الثقافات العالمية في مغامرتها الشعرية الكونية، بعيداً عن أية أيديولوجية عرقية أو دينية أو هوياتية، تضيف صاحبة "الشعر وأنسنة العالم" أنَّ الحداثة الشعرية تفرض أشكالاً جديدة على الشاعر، معتبرةً في هذا السياق أنَّ قصيدة النثر جنسٌ شعري جاء في سياق الإبدالات النصّية الجديدة للقصيدة العربية بفعل حركة التحديث الشعري، فأضحت بمثابة أفق جديد في القصيدة الحديثة، وهي تجربةٌ أعادتنا إلى طرح سؤال الشعر في زمننا.
بالنسبة إلى الخمليشي، فإنَّ مفهوم "الشعر وأنسنة العالم" يرتبط بفكرة المقاومة الثقافية؛ "فالشعر يقاوم، عبر تاريخه الطويل، من أجل الحرية، وحريةُ الشعر لا تنتهي، لأن الشعر هو نشيد الإنسانية الذي أرّخ لتاريخ ميلادها"، مضيفةً: "لذلك يحتاج الشعر إلى قراءة جديدة تستوعب العمق الجمالي والإنساني للقصيدة؛ فالشعر مُنطلَق لقراءة كلّ مظاهر الحياة الإنسانية، قراءة من داخل الشعر لنكتشف ذواتنا ونكتشف العالم، وهو يفتح آفاقاً مجهولة للمتلقّي في علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالمجتمع الإنساني".
ويرى الناقد محمد علّوط أنَّ ما يُميّز المرحلة الشعرية في القصيدة المغربية الحديثة هو أنّها تنهض على حركة دينامية مفصلية ما بين شعراء السبعينيات والحساسيات الشعرية المغايرة، وهنا يميّز بين انتسابَين شعريّين: الأول وسَمَه بـ "شعرية المماثلة" في إشارة إلى شعراء السبعينيات، والثاني سمّاه "شعرية النفي" قاصداً الحساسيات الجديدة.
يوضّح صاحب "شعرية القصيدة المغربية المعاصرة": "مع الجيل الأوّل، ظلّ النص الشعري انعكاساً أيديولوجياً للواقع، وجرى تهميش السؤال الجمالي والوجودي والشرط الإنساني. أمّا الثاني، فقد أسّس لمبدأ تحوّلاته القائم على الانفلات من الجاهزية والمعيارية. وهذا الوعي الشعري الجديد أسّس لما يُعرَف في الذائقة الشعرية العالمية بالهويات الشعرية المتغايرة".
أمّا الناقد عبد اللطيف عادل، فينظر إلى راهن الشعر المغربي اليوم من خلال ارتباط النصوص بأسئلة الذات، معتبراً أنه، وعلى عكس ما يتشكّل مِن وعي عن هذا المنجَز، تشهد القصيدة المغربية تجاوراً لأنماط الكتابة الشعرية، بمختلف تجاربها وحساسياتها، وأسهمت الوسائط التكنولوجية في ظهور كتابات جديدة تطرح على النقد الشعري مسؤولية مضاعفة، وعلاقة بسمات التحوّلات التي يعرفها الشعر اليوم.
يلخّص صاحب " بلاغة الإقناع في المناظرة" الأمر في اعتماد الدعامة الرقمية، والتركيز على عوالم الذات، وبروز صوت المرأة الشاعرة، واعتماد التشذير والاقتصاد في الكتابة، وخمول النقد الأدبي، وتكامل الشعر مع فنون أُخرى (التشكيل والموسيقى والصورة)، وعودة الشعر العمودي.