جوزِبِّه كاتوتسيلا: الإيطالي في مرآة ماضيه

21 نوفمبر 2019
(جوزِبِّه كاتوتسيلا)
+ الخط -

جوزِبِّه كاتوتسيلا كاتب إيطالي من مواليد ميلانو عام 1976. درس الفلسفة وأنجز أطروحة بعنوان "العقلانية في فكر نيتشه"، والتي سنجد أثراً لها في رواياته لاحقاً، ولكن بعيداً عن مفردات الفلسفة والفكر.

يقول في هذا الصدد: "لقد طغى الجنون على أفكارنا وبتنا نجزم، بكل ما أوتينا من عقلانية، أن هذا هو الطريق الذي يجب أن تسلكه الإنسانية، رغم وعينا الكامل بأننا نسير بملء إرادتنا نحو النهاية".

في 2014، نُشرت روايته "لا تقولي إنك خائفة"، والتي دخلت قوائم الأكثر مبيعاً وحازت "جائزة ستريغا للشباب". يروي العمل القصّة الحقيقية للرياضية الصومالية سامية يوسف عمر، بعد مشاركتها في أولمبياد بكين عام 2008، وماتت لاحقاً كمهاجرة في البحر الأبيض المتوسّط، أثناء محاولتها الوصول إلى إيطاليا.

سامية في هذه الرواية - على غرار الطفل بييترو في "لكنك ستفعل" - هي شخصية من ابتكار الكاتب الإيطالي، كانت تؤدّي دورها في تعرية أوهام العولمة وأكاذيب الانفتاح على كافة الشعوب والثقافات، فما كلّ ذلك سوى خدع مبتذلة لنهب ثروات الشعوب، ومن وراء ذلك يُبرز الكاتب أطروحة فلسفية مفادها أن العقل الغربي لم يتنازل قيد أنملة عن مركزيته الطاغية.

العنصرية، الحروب القذرة، تمجيد العنف، هي مواضيع تطرّق إليها كاتوتسيلا من خلال كتاباته. هنا لقاء مع الكاتب بمناسبة صدور الترجمة العربية لروايته الجديدة "لكنك ستفعل" عن "منشورات المتوسط" ومشاركته في "أيام الرواية الإيطالية" في تونس اليوم وغداً.


■ ما الذي دفعك لاختيار موضوع الهجرة الذي يمثّل قضية شائكة ومحطّ نقاش عنيف في الحياة الاجتماعية والسياسية الإيطالية؟

- "لا تقولي إنك خائفة" هو الكتاب الأول من ثلاثية "الآخر". هذه الثلاثية هي قصّة ومحاولة جرد من قبل كاتب غربي، مع الجانب الخفيّ للقمر، ذاك الذي لا يزال بعيد المنال، ووصفه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" باسم "الآخر" تحديداً، أو بالأحرى الأجنبي، أو المختلف أو الدوني. تتألف الثلاثية من ثلاث مراحل شاملة، ولنقل هوميرية: الرحلة (لا تقولي إنك خائفة)، الحرب (المستقبل العظيم)، ونقطة الوصول (لكنك ستفعل). ككاتب إيطالي، شعرت بالحاجة إلى مواجهة نفسي مع ماضيَّ الخاص وماضينا العام، وهو الاستعمار الإيطالي في القرن الأفريقي (كان جدّي جندياً إيطالياً في الصومال).

أنا مقتنع أنه، لكي نفهم ما يحدث في وقتنا الحالي من تنقّلات الملايين من الأشخاص، أولئك الذين نسمّيهم الآخرين، من أفريقيا والشرق الأوسط نحو العالم الغربي، لا يمكننا تجاهل المقارنة مع الماضي كمستعمِرين غربيّين، ومع موروثاته. لهذا السبب، نجد أن "لا تقولي إنك خائفة" و"المستقبل العظيم" هما قصّتا فتاتين من الصومال، كلتاهما وُلدتا في بلد يعاني من الحرب، وتقومان بخيارين مختلفين: سامية تقرّر الهرب وتشرع في رحلة إلى إيطاليا، بينما تقرّر أمل أن تقاتل.

أمّا "لكنك ستفعل"، فتتحدّث عن الرسوّ أو نقطة الوصول: ماذا يحدث في قرية تقع على قمة الجبال في جنوب إيطاليا - وهي قرية صغيرة لم تعرف سوى الهجرة خلال عقود طويلة من الزمن - إذا عثر أهلها على سبعة أجانب مختبئين في برج نورماندي قديم؟ أردت في هذه الرواية أن أضع في المشهد ردّ فعلنا، آلية الرفض: بأية طريقة ينتقل مجتمع ما من ردّ فعل طبيعي للدفاع عن نفسه تجاه شخص قادم من بلد آخر، إلى سرد عنيف وجماعي تجاه الغريب. أو بالأحرى، حاولتُ أن أوضّح بأي طريقة تولد العنصرية.


■ بالعودة إلى "لا تقولي إنك خائفة"، وهي الأولى التي تُرجمت إلى العربية، وحازت إعجاب القرّاء والنقّاد، نجد وكأنها تطرح علامات استفهام حول الجيل الجديد من الكتّاب الإيطاليّين والمواضيع التي يطرحونها..

- طريقتي في تجسيد الأدب تختلف عن معظم زملائي من الكتّاب الإيطاليين تقريباً. أنتمي إلى تلك الدائرة الضيّقة من الكتّاب الذين لا يجبرون أنفسهم على التراجع أمام رواية العالم والواقع الذي يعيشون فيه، لكنهم يحاولون أن يحوّلوه إلى لغة عالمية، إلى الأدب بالضبط. أعتقد أنني أستطيع القول إن من يقوم بذلك في إيطاليا هما روبرتو سافيانو وأنا فقط.


■ إثر صدور الرواية، رحّب إرّي دي لوكا بها، قائلاً: "هذا هو السرد الذي يعجبني، لأنه استطاع أخيراً أن يروي واحدة من أعظم الملاحم في عصرنا". بغضّ النظر عن الهجرة، ما هي الملاحم التي تشغل تفكيرك، أو بالأحرى تلك التي تُقلق الناس اليوم؟

- الناس قلقون وخائفون من خطاب علني وسياسي لا ينفكّ يزداد تطرّفاً. ويفضّل الناس - كما حدث بالفعل في أوروبا قبل سبعين عاماً خلت، وكما حدث مرات عديدة على مدار التاريخ في جميع أرجاء العالم - أن يعزوا فشلهم أو انحدارهم الاقتصادي إلى عامل خارجي، بدلاً من العامل الداخلي، سواء تَمثّل هذا العامل الداخلي في البلد الذي ينتمي إليه الفرد، أو الحالة الشخصية الخاصة به.

في الثلاثينيات مثلاً، استغلت النازية والفاشية الأزمة الاقتصادية وسخط الطبقة الوسطى لأغراض انتخابية، بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى في 1929. لذلك توجد اليوم أحزاب سياسية مستعدّة لتعميم الكراهية وإلقاء اللوم على الأجنبي مقابل الحصول على أصوات الناخبين.


■ في نسختها باللغة الإنكليزية (التي نشرتها دار بنغوين)، وصلت "لا تقولي إنك خائفة" إلى القائمة النهائية لـ"جائزة إمباك دبلن" العالمية، جنباً إلى جنب مع كتّاب مثل جوناثان صفران فوير، وخافيير مارياس، وزادي سميث. ما هو تأثير الجوائز في حياة الكاتب؟

- يمكن أن تكون الجوائز اعترافاً بالقيام بعمل جيّد، ولكن أعظم تقدير لي هو ذاك الذي يمنحني إياه القرّاء.


■ تتعاون بصفة مدرّس مع "مدرسة هولدن للأدب وللكتابة الإبداعية" في تورينو، ومع جامعتَي ميامي وسيتون هول في نيويورك. ما هي وظيفة هذه المدارس في المشهد الثقافي لبلد ما، وهل تعتقد أنها مجدية بالفعل في اكتشاف مواهب جديدة وتأهيلها؟

- مهمة أية مدرسة أو جامعة هي تدريب الشبّان الذين يرون في التخصّص الذي يختارون دراسته إمكانيةَ تحقيق مستقبلهم. في هذه الحالة إذن، مهمتي هي تأهيل أدباء للمستقبل وباحثين في العلوم الإنسانية. إنها مسؤولية كبيرة، ولكن ما يمكنني فعله هو استخدام ما أعرفه وما تعلّمتُه في ميادين الحياة.


■ شاركتَ مؤخّراً في الاجتماع التاسع للكتّاب الأوروبيّين والمغاربيّين في الجزائر. ما هي الخبرة التي اكتسبتها من هذا اللقاء، وهل يمكن لهذه الاجتماعات أن تقلّل إلى حدّ ما من المركزية الأوروبية تجاه دول العالم الثالث؟

- لقد كان لقاءً مفيداً. برأيي، هذه الحواراتُ الأوروبية- المغاربية فكرة جيّدة؛ حيث يجد الكتّاب الأوروبيّون أنفسهم في حوار مع كتّاب شمال أفريقيا حول موضوعات أساسية مثل الحوار بين الثقافات، والأمل، والبحر الأبيض المتوسّط كفضاء مشترك، بالإضافة إلى الصداقات، وكانت تلك فرصة بالنسبة إليَّ للتعرف إلى كتّاب مغاربيين كنت لا أعرفهم من قبل.


■ رواية "المستقبل الكبير" لاقت استحساناً من قبل الفنّانين، أي من خارج المجال الأدبي، وقارنها المخرج غابرييل سلفاتوريس، في مراجعة طويلة له، مع رواية "سيدّارتا" لـ هيرمان هِيسّه. برأيك، هل نحن أمام إحياء للمخيال الإيطالي بعد سنوات من الركود مقارنةً مع الماضي؟

- لا أستطيع أن أبدي رأيي في هذا الشأن، ولا أستطيع أن أجزم أيضاً إذا كان بالفعل ثمّة ركود في الماضي، أم أننا أمام انبعاث حالي. أنا أستطيع أن أقول إنني سعيد للغاية لأن رواياتي تُنشَر في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، نجاح إيلينا فيرّانتي على مستوى العالم، أمر جيد للرواية الإيطالية.


■ في رواياتك، بالإضافة إلى المواضيع التي تتناولها، تستخدم العديد من الكلمات العربية، بما في ذلك الآيات القرآنية. ما هي العلاقة التي تربطك بالثقافة العربية؟ وهل قرأت بعض الأعمال من الأدب العربي؟

- قرأتُ ودرست القرآن وجانباً كبيراً من أحاديث النبي محمّد، بالإضافة طبعاً إلى العديد من الأعمال لكتّاب من بلدان العالم العربي: وفلسطينيين، ومغاربيين، وصوماليين... إلخ. ودراستي للثقافة العربية كانت جزءاً من اشتغالي على ثلاثية "الآخر". والآخر، بالنسبة إلى العالم الغربي، هو قبل كل شيء الشخص الذي يعتنق العقيدة الإسلامية. كانت دراستي للإسلام، بمساعدة إمام إيطالي، أمراً أساسياً لفهم ثقافته.


■ من هم المؤلّفون الذين استلهمتَ منهم؟ وما هي مشاريعك القادمة؟

- بشكل عام، أحبّ الكتّاب الذين لا يتراجعون أمام قصّة الواقع الذي وجدوا أنفسهم يعيشون فيه، مثل سفيتلانا أليكسييفيتش، وتيخونوفيتش سلاموف، وبريمو ليفي.


■ ما هي العلاقة برأيك بين الحياة والأدب؟ وهل تعتقد أن بإمكان الأدب التقليل إلى حدّ ما من الأخطار التي تؤثّر على وجودنا؟

- الحياة والأدب، بالنسبة إليّ هما الشيء نفسه. كل ما أعيشه، أعيشه في أفق أعرف أنه يمكن أن يكون أدبياً للغاية، وعندما أقرأ، أحبّ الكتب التي تتحدّث عن الحياة، والتي تزيد من رغبتي في الحياة. بطبيعة الحال، يمكن للأدب أن ينقذ العالم وأن يغيّر حياتنا.

المساهمون