تصوَّرَ المهتمّون بالدراسات الترجمية، ابتداءً من ستينيات القرن العشرين، أن البحث في الترجمة ومعالجة إشكالياتها وقضاياها سيقتصر على التّرادوكتولوجيا؛ أي علم الترجمة، خصوصاً بعدما أفلحت الأخيرة في الخروج من معطف اللسانيات على غرار انفصال تعليم اللغات عنها.
لكن بقدر ما انفصلت الترجمة بذاتها عن علوم كثيرة اشتدّ ارتباطُها بالفلسفة، بحيث ألفت نفسَها موضوعاً لتأمُّل أم المعارف، ومجالاً من مجالات اشتغالها، بحكم أن معظم الفلاسفة والمفكّرين عنوا بها وبإشكالاتها، خصوصاً في القرن العشرين والعَقدين الأخيريْن.
ولعل سبب اهتمام الفلسفة بالترجمة يُردُّ إلى كونها تفكيراً في الحاضر، قبل كل شيءٍ، وانتباهاً إلى ضرورة الانخراط في المنجز الإنساني بالإسهام في بنائه عبر إذاعته بين شتى الثقافات، وبالعمل على التوجه نحو المستقبل. وجليٌّ أن انشغالَ الترجمة هذا فكريّ، وهو لا ينفي عنها اتجاهَها نحو الماضي، وأنها تروم، في الوقت ذاته، إنقاذ الذاكرة وضمان استمراريتها، فهي بذلك تتقاطع مع الفلسفة في مجالات عديدة.
لكنّ اللقاء الحقيقي بينهما يتكشَّفُ في التقائهما في حيِّز العلامة اللغوية، فكلتاهما تُعلن عن ذاتها بصفتها لقاءً مع ما تشحنه تلك العلامة من حمولة ثقافية ونفسية ومعرفية تكون كلتاهما مضطرة إلى فك شيفرتها. فيكون كِلا المترجم والفيلسوف يصدران عن قراءة علاماتٍ، هي كلماتٌ تؤلِّف نصوصاً، ويؤولانها.
ويَحْدُث للمترجِم أن يتعرَّف كثيراً من تلك العلامات دون أن يعرفَها تمام المعرفة، أي دون أن يستنفد إمكاناتها الدلالية؛ فهو يمر جانبَها في كثير من الأحيان، أثناء بحثه في النص في لغته الأصلية عن الحقيقة، ولذلك تبقى معرفتُه بالنص وإحاطتُه به ناقصة، مما يُسوِّغ تعدد الترجمات من جهة، ويبرِّر قراءات متنوعة هي في الواقع حوارٌ وتبادل لوجهات النظر، ودعوةٌ إلى مجتمع المحبة والمعرفة والصداقة، وبكلمة واحدة تغدو الترجمة تفكيراً، لمرورها أثناء بحثها عن الحقيقة بالفهم والتأويل والتفسير، وهي لعمري القيم نفسُها التي تُحرّض عليها الفلسفة أيضاً، التي لا تفتأ تعيد قراءة العلامات وإعطاءَها معان مغايرة عمَّا أُلِّف، نَظراً للقراءة الجديدة التي تُخضعها لها، مِمّا يُحوِّل مَسِير الفكر والمعرفة.
ويؤكّد الاستنتاجَ السابق الفيلسوفُ الفرنسي جيل دولوز، الذي يرى أن التفكير يكون "دوماً تأويلاً، أي تفسيراً وتطويراً، وترجمةً لعلامة، [...] فلا وجودَ سوى لمعانٍ تكمن في علامات، فإذا كانتْ للفكر القدرة على تفسير العلامة، وعلى تطويرها في فكرة، فلأن الفكرة تكون في العلامة قَبْلاً، ملفوفة ومطويّة، وفي حال غامضة لِما يُجبِرُ على التفكير".
وتُفسِّر عبارة دولوز سِرَّ تجدُّد الفكر الغربي دوماً، فهو، مَثَلاً، يعود باستمرار إلى تراثه الفلسفي اليوناني، ويُعيد قراءته قراءات جديدة؛ كحَال أرسطو، الذي يُؤَوَّل باستمرار، وليس على رأس كل مائة سنة، ومن ثَمَّ نَفْهَم إبداعيةَ الغربِ، الذي يستلهم ارتقاءه وتطوُّره من إعادة ترجمة تراثه اليوناني وفهمه وفك شيفراته وتأويله وتفسيره. وهذا يُعضِّد ذهابَ شارلْ لوبْلان إلى أن الترجمةَ هي "ترجمةٌ للتفكير في العصر الذي تأتي منه، قبل أن تكون ترجمةً لنص من النصوص"، لاستعْدادِ الغربيِّين لتغييرِ واقعِهم وإحداثِ انعطافٍ في معيشِه وذهنيّته.
وعليْنا ألا ننسى، أيضاً، بأنّ الأصل في الاختلاف بين الترجمات ليس النصّ بعلاماته التي قد يُنظَر إليها بصفتها جوهراً موضوعياً، وإنما يُردُّ إلى الذواتِ المترجِمة التي يُفتَرَض فيها أنها مختلفة وأنها جوهر ذاتي متعدّد، وأن كل مترجِم يكشف في النص الذي يُترِجم عن معنى غير متوقَّع، وهو ما ينعكس مُباشرة على الفكر، أي على الفلسفة التي تتغذى على الترجمة والتأويلات اللامتناهية.
تُسعِفنا الترجمة في تخطي ذاتنا وعالَمنا، وفي الخروج إلى عوالم أخرى ما كان لنا أن نطَّلع عليها إلا بإتقان لغاتِها جميعها. ويسمح تعدُّد المترجِمين وكثرتُهم في تيسير المهمّة التي تمكِّننا من الوقوف على فلسفات وفنون ومعارف وغيرها كانت ستظلّ في حكم المجهول بالنسبة إلينا. والأكيدُ أنَّ المترْجِم يُقدِّمُ من خلال نصِّه المترْجَمِ قراءتَه الخاصَّة للنص الأصل، أي نصّاً مختلفاً بالضرورة عن الأصل، ما يعني أنه يَبسط أمامَنا اختلاف قراءته عن قراءة الآخرين بالضرورة، وما يُفيدُ بأنَّ النصّ المُترجَم لا يوجد إلا في الصورة التي هو عليها في لغة الوصول، وأنْ لا مثيلَ له خارجَ ذاتِه.