كدتُ أتوقف عن إكمال ما أقرأ حتى وجدت الكاتب يصف بلاده بأنها "حمّالة صدر العالم" في وصف مدائحي مفرط في الغرائبية. ولعلني مثل قراء آخرين، توقفت أمام جملة من التمثلات التي قفزت في ذهني حول كيف تكون بلاد في هذا الكون تحمل صدر العالم هكذا وبكل هذه البساطة، دون أن ينهال الصدر على وجه وبطن وأكتاف بلاد أخرى مثلاً حين تقرر الكرة الأرضية أن ترتاح قليلاً من ضغط الحمالة إياها!
لكن الحيرة لم تتولد من كون حمالة الصدر ليست جزءاً أصيلاً من الجسد، إنها محض غطاء ثقافوي زائد عن حاجته، بل في كيف خطرت هذه الفكرة في ذهن كاتبها في نبرة متحررة من السخرية ومفعمة بالرصانة والتأكد والتجهم؟
لكن إذا كانت هذه البلاد محض حمالة صدر، فأي البلاد هي الصدر أصلاً؟ ثم خطرت في رأسي فكرة خطيرة مفادها أن هذه البلاد وإذا لم تكن محض جزيرة انفصلت بفعل حركات باطن الأرض المتواصلة وظواهر طبيعية وجيولوجية أخرى عن دولتها الأم وصارت دولة قائمة تأخذ شكل ودور حمالة صدر؛ فإنها بلاد تحمي العالم، بالتأكيد، من خطر محدق على شكل يد ناهشة أو فم بأنياب وشفاه جارحة!
لكن لا أخطار خيالية تهدد العالم من خارجه، إلا إذا كان لنواميس الكون والطبيعة أقوال أخرى.
وسرعان ما استدركت بأنني وقعت في فخ منصوب لكاتب أراد أن يضعني هنا تماماً في مواجهة عبارة مربكة من تلك التي يضعها الكتّاب في متون النصوص ككوابح للقراءة السريعة، كتقنية من تقنيات جايمس سالتر الكتابية، إذ إن كل شعوب العالم تعتقد أن بلادها هي الأهم وأنها الأكثر تجذراً في التاريخ، وأن موقعها استراتيجي وطليعي ومتقدم وأنها الأجمل والأبهى والأعظم وأنها حمالة صدر العالم، إلخ!
ولسبب ما تخيلت أن العبارة المربكة أعلاه كانت السبب الوحيد الذي جعلني أكمل ما تبقى من الكتاب إلى أن اصطدمت في مكان آخر بقول لا يقل إرباكاً جاء فيه: "وبينما كانت الدولة في شكلها الحديث تطيل ذقنها حتى لا تتجرأ دول أخرى عليها..." حتى وجدتني أتوقف مأخوذاً بشلال صور متدفقة أمام طغيان جنسانية المفردة في حسابات ميشيل فوكو، في كون هذه الدولة وهي حمالة صدر العالم؛ تطيل ذقنها هكذا، وكأن شأناً أنثوياً هائلاً لم ينفجر قبل قليل.
لا يبدو التشبيه الثاني عشوائياً في سورياليته إذا ما نظرنا إلى مجازية التشبيه الأول، إذ يلتقي واحد من تجليات الأنثوية في أبهى صورها، مع واحد من تمثلات الرجولة في أوضح تجلياتها بين دفتي كتاب أراد له كاتبه أن يتحدث عن الدولة في شكلها الحديث، أو دولة ما بعد الحداثة أو الدولة في شكلها السائل على حد تعبير زيغمونت باومان.
ولعل الدولة، هذه المفردة السحر، التي تأخذ إيقاعاً سمعياً أنثوياً في شكلها المفرد على هوى سيمون دي بوفوار، وذكورياً نيشتوياً فجّاً في شكلها الوظيفي، تمثلت في شكل من الأشكال كلقمة سائغة من حيث حجم التطويع البلاغي في الكتاب، إلا أنها تحتمل أبعد من تمثلات الذكورة والأنوثة والجغرافية من أجل الإحاطة بتقلبات أشكالها وتمثلاث حالاتها وارتدادات مآلاتها وخصوصاً في عالم اليوم.
وإذا كان الكتاب يريد للدولة أن تسبح بين سياجات حمالة الصدر في بعدها الترطيبي لنشافة مفردات السياسة من جهة، وذقن مطوّلة كدرعٍ رادع أمام أخطار وأطماع دول أخرى، من جهة ثانية، فإن ركيزة الكتاب وهي تستدعي هذا النوع من المجاز العابر في السطور لا تتورط في الارتباك الحداثوي الحاصل لاسيما في موضوع الذقن، إذ إن الذقن المرسلة على عواهنها، لم تعد حكراً على عتاة يسار السبعينيات المعروفين بشراسة حلولهم واقتراحاتهم، ولا على غلاة المتدينين الجدد، "داعش" وأخواتها هذه الأيام، بل أصبحت الذقن المرسلة هذا موضة للحداثة والنعومة والنظرات المستسلمة أمام فقاعات الجمال وهشاشة خيالاتها التي تدين أشكال القوة وما تفرضه الذكورة المفرطة التي يتخيلها الكتاب من كل ذلك كحصن منيع للدولة.
وإذا كانت حمالة الصدر في مرحلة من المراحل، متلازمة أنثوية لا يستطيع الذهن النسوي تجاوزها في الشكل والحاجة والحضور، أصبحت الآن مادة لنقاش نساء مرحلة ما بعد حمالة الصدر، أي أنها بدأت فعلاً في مرحلة "تخيل" فنائها واستبدالها والاستغناء عنها نهائياً، أمام إلحاحية أفكار الحرية المتولدة بفعل خيالات طارئة وغير طارئة بالمرة.
لكن، وفي مكان ما، لا تظهر هذه المقاربات مهزومة أو فاقدة بريق حضورها تماماً بالرغم من التباسات معناها في ظرف هذه الأيام، إذ ما زالت الدولة، مفعمة بهيبة أدواتها، بالرغم من سيولة أطرافها وتآكل شكلها القديم، ومازالت حمالة الصدر في مأمن من محاولة تذويبها والاستغناء عنها، ناهيك عن كون محاولات تجاوزها واستبدالها لم تتعد كونها شكلا من أشكال الاستعراضات الفوتوغرافية المرفهة لأغراض دعائية هنا وهناك، في حين يبدو أن الذقن المرسلة الفوضوية أضعف حلقاتها على الإطلاق، وإن كانت في مأمن، وحتى هذه اللحظة، من إحكام قبضة الحكم عليها نهائياً.
* كاتب من فلسطين