ذكرى ميلاد: الجواهري.. معنى القصيدة والوطن

02 أكتوبر 2018
(الجواهري وزوجته أم فرات)
+ الخط -
لم يحظ شاعر عربي في القرن العشرين بما حظي به الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري (1900 – 1997) الذي تصادف ذكرى مولده اليوم، إذ اختلف الناس حول سيرته ومواقفه كلّ يصنّفه من موقعه السياسي، واختلفوا كذلك حول قصيدته التي لا تنفصل عن شخصيته، لكنهم جميعاً اتفقوا على أن له منزلة شعرية تسمو على نقدٍ لتفصيل هنا او هناك.

يخطر في البال أن الكوارث والمحَن التي حلّت بأرض السواد طوال عقود مضت، دفعت كثيرين للبحث عن أيقونة تجمعهم حول عراقهم، فأرادوا ان تكون أبا فرات يناجونه كلّما أحسوا بوطأة مستبّد أو ظلم أولى القربى ويتذكرون أشعاره التي شاءت الأقدار أن تعبّر عن فواجعهم وحنينهم واغتراباتهم التي لا نهاية لها.

ويخطر أيضاً أن محاولات بائسة سعت إلى استعادة صاحب "أيها الأرق" عبر إطلاق اسمه على مهرجانات وقاعات وساحات، لكنها لم تحمل شيئاً من إرثه سوى هذا الاسم، ويصدف أن يسيئوا إليه في صنع تمثال له لا يزال محطّ سخرية واستغراب إلى اليوم، ليس لخلل في تصميم نصب أو تنظيم تظاهرة إنما لخطأ في القلب.

كما تفلّت الجواهري من حبٍ بلاد مصابة بالصم والبكم والعمى وبحَث عن وطن يحتمل تمرّده ونزقه ورفضه، فإنه ينجو اليوم من تعلّق الجهلاء والسماسرة والموظّفين به لأنهم لم يقرؤوا جيداً في دفاتره مخاطباً ثوار بلاده ضد الاستعمار البريطاني عام 1928، حين يقول: "خذوا بيدي هذا "الغريب" فإنه/ لكل يدٍ مدَّت إليه معاديُ/ لئن جئت عن أَزمانكم متأَخراً/ فإني قريب منكم بفؤادي".

اختار صاحب "بريد العودة" أن يعبّر عن انحيازاته بكلّ وضوح وجرأة ضدّ كلّ من يأسر وجدانه وعقله وماضيه ومستقبله معارضاً المستعمر وأنظمة الحكم والقوى المحافظة في مجتمعه، ويُستحضر اليوم على وقع ما يعيشه العراق، موقفه عندما انتخب نائباً عن محافظة كربلاء عام 1947 ليستقيل بعد بضع أشهر وينضمّ إلى صفوف المتظاهرين احتجاجاً على توقيع "معاهدة بورتسموث" التي تسمح للجيش الإنكليزي بموجبها دخول العراق واستخدام أراضيه بموافقه حكومة بغداد التي تتحمل بدروها الإنفاق على هذه التدخلات.

تكرّر الأمر ذاته مع الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الملكية، وتجدر الإشارة إلى أن موقع الجواهري وقربه من السلطات – والتي مدح أركانها مرات عديدة – لم تحل دون رفض أخطائها، حتى خروجه الأخير إلى المنفى عام 1980، إذ رفض يومها تفرّد النظام العراقي السابق بالحكم وإقصائه جميع المعارضين، رغم محاولات النظام إقناعه بالبقاء والتأكيد على أنه خارج دائرة "المغضوب عليهم".

فهِم صاحب "بريد الغربة" القصيدة باعتبارها فعلاً يومياً يرتبط بحياة المرء وكرامته وسعيه إلى إحقاق العدالة وتوقه إلى الحرية المطلقة، ما يفسر رؤيته للشعر وتبنيه الواقعية أسلوباً ومعنى خلافاً لتيار سائد في بدايات القرن الماضي كان ينحو إلى إحياء التراث من خلال تجديد القصيدة العمودية، لكن الجواهري وهو ابن الصنعة الشعرية المحافظة كان يتأمل الحاضر وأزماته، فالمبنى لديه ماضٍ والمعنى راهن؛ مفارقة لن نعثر على مثيل لها عند غيره.

في "مقبرة الغرباء" قرب مدينة دمشق، دفن الجواهري بناء على وصيته بخارطة للعراق الذي لم يلفظ عينه إلا مرفوعة يأبي أن ينال منها الكسر، موجزاً تجربته في بيتين يقول فيهما "أنا عامل بالفكر، أعمل معولي/ في صخرة فأحيلها لفتات/ في الكف مطرقتي أفلّ بحّدها/ أصلاب أوغاد وهامَ طغاة".

المساهمون