غراس وغاليانو.. مواجهة العالم بالتذكّر

15 ابريل 2017
("سبعة طيور" منحوتة لـ غونتر غراس، تصوير: توبياس شوارز)
+ الخط -

لم يكن رحيلهما في الثالث عشر من نيسان/ إبريل قبل عامين سوى إشارة إلى قرب ما جمع الروائي الألماني غونتر غراس (1927-2017)، والكاتب الأرغواياني إدواردو غاليانو (1940 – 2015)؛ رغبة في الكشف عن حقائق مخبوءة في تاريخ وطنهما حيث كلّ واحد منهما كان مهووساً بالتذكّر، ومواجهة كلّ أولئك الحانقين على تلك الشهادات الصادمة التي صاغت أعمالهما.

مساران مختلفان تماماً دفعا صاحب "مشية السرطان" الآتي من الشمال إلى مواقف عديدة مشتركة في الشأن العام مع صاحب "صياد القصص" القادم من الجنوب، غير أن الانخراط في الحرب العالمية الثانية التي ستشكّل أحداثها وتداعياتها وعي الأول ليست بعيدة عن القمع والمنافي التي سبّبته أنظمة دكتاتورية متحالفة مع الاستعمار، كما في حالة الثاني.

غراس الذي التحق بفرق النازية الخاصة المتهمة بكثير من جرائم التعذيب، كما اعترف بعد أكثر من ستّة عقود في مذكراته "أثناء تقشير البصل" (2006)، بدأ رحلته مع الكتابة محاولاً التطّهر من ماضيه وماضي بلده في روايته الشهيرة "طبل الصفيح" (1959) التي دانت فساد حقبة سياسية بأكملها وسقوط قيم المجتمع.

سيمضي عقب ذلك إلى اعتبار أن ألمانيا لم تُولد من جديد بعد حربين كونيتيْن مدمرتين، بقدر ما سعت إلى قبولها في أوروبا والغرب، وينتقد القمع في بلدان المنظومة الاشتراكية رافضاً في الوقت نفسه القطيعة مع حكوماتها وشعوبها واقتصار التواصل معها عبر منطق الدعاية والتحريض.

تلك المراجعات لمآلات الحرب ستذهب به إلى خصومات أبعد مع السلطة وانتهاكاتها، وأتت مواقفه في التسعينيات صادمة أكبر حين اعتبر أن ضمّ ألمانيا الشرقية إلى الغربية كان قسراً، أو في الهجوم على سياسات الرأسمالية المتوحّشة.

جميع الاتهامات بـ"ضعف أعماله فنياً"، والتي كالها نقّاد ومثقفون ألمان له، كانت تُبعده قليلاً عن السياسة، لكن عودته في كلّ مرّة كانت أكثر غضباً وهجاء، وتجّلت في قصيدتيه "ما ينبغي قوله" التي دان فيها صمت الغرب عن جرائم "إسرائيل" وتهديدها للسلم العالمي، و"أوروبا العار" التي حمّل فيها بلاده والقارة العجوز المسؤولية عن انهيار اليونان اقتصادياً.

الموقف من الاحتلال الإسرائيلي وتدخّلات الولايات المتحدة العسكرية في أكثر من بلد باسم الديمقراطية، كان أحد أبرز الجوامع بينه وبين غاليانو، وقد استعاد الأخير كلمات غراس حين احتلّ الأميركان العراق بـ"ضرورة ذهاب بوش إلى الطبيب النفسي".

في المقابل، وُلدت كلمات غاليانو من نزيف بلاده التي تئن تحت حكم الطغاة وتركة المستعمر، فأصدر أوّل أعماله "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" ليدخل على إثره السجن، ثم يُبعد إلى الأرجنتين ويغادرها بعد أن أصبح مطلوباً على قائمة "كتائب الموت" عقب الانقلاب العسكري فيها، وتبدأ رحلة المنافي ومعها النبش لاستعادة ذاكرة المسحوقين المفقودة.

لم يطق العودة إلى كتابه الأوّل لأنه أراد أن يتعمّق أكثر في قراءة الاقتصاد والسياسة إلى جانب إلمامه بتفاصيل تاريخ الاستعباد الطويل في خمسة قرون من النهب في قارته، والذي ضمّنه في ثلاثيته "ذاكرة النار"، التي عدّت من أقوى الإدانات الأدبية للكولونيالية في الأميركيتين.

منذ اكتشاف كولمبوس "العالم الجديد" وإلى اليوم، أعاد غاليانو كتابة تاريخ الرأسمالية في عملية "محو" مدروسة لأكاذيبها التي لا تحصى، سواء في مقارباته الجادّة التي احتوتها مقالاته ومؤّلفاته أو في تهكمه الدائم في حواراته الصحافية، إذ يقول في أحدها: "تلقّيت مرّات عدّة دعوات لحضور جنازة الرأسمالية، ونحن نعرف تماماً، بأن هذا النظام الذي يحتكر الأرباح لنفسه ويوزع خسائره بلطف على المجتمع، بل يحاول إقناعنا أن ذلك إحسان منه، سوف يعيش بأكثر من سبع أرواح، ولأنه يتغذّى على تشويه سمعة الأنظمة البديلة لها".

ولم يجد إرهاباً أبشع مما تمارسها الرأسمالية نفسها، وإنتاجها للمزيد في إشارة منه إلى وجود "إسرائيل"، حين هاجمها أكثر من مرّة بسبب عدواناتها المتكرّرة. كما رفيقه غراس آمن بكلّ ما قدّمه وحارب من أجله إلى النهاية، حين قال: "يجدر بنا أن نموت من أجل تلك الأشياء التي من دونها لا نستحقّ أن نعيش".

المساهمون