اعتداء نيس: دم أزرق وقراءات حمراء

18 يوليو 2016
خالد تكريتي/ سورية
+ الخط -

تتعدد الانتقادات التي تخلص إلى "موت المثقف الفرنسي"، كما يقدّمها أصحاب وجهة النظر هذه الذين يقارنون بين نماذج زولا وسارتر وفوكو بانحيازاتهم الواضحة لقيم التحرّر والعدالة والمساواة، وبين ما نراه اليوم من طروحات برنار هنري ليفي وميشال ويلبيك وإريك زِمور وغيرهم كثر ممن يُحتفى بهم في إعلام اختطف الثقافة وفصّلها على "مقاس" تخوفاته ورغباته.

يستقيل الوعي الفرنسي، والأوروبي عموماً، الذي أنجز مفاهيم عصر الأنوار القائمة على العقل وحرية التفكير، ويستسهل التعامل مع قضايا اللاجئين والمهاجرين والإرهاب بوصفها أخطاراً تهدّد الهوية والمستقبل، من دون النظر إليها ضمن التحولات الاقتصادية الاجتماعية الحادة التي تعصف بالعالم كلّه.

تهديدات تذهب باتجاهين؛ الأول يعزز خطاباً متطرفاً وسلوكاً عدوانياً لدى العديد من النخب الفرنسية تجاه جميع الأجانب والغرباء عن دم "أزرق" بمواصفات محددة، وإن بدت مضمرة في خطابه، والثاني - أقرب إلى المؤسسة الرسمية - يوجّه أصابع الاتهام إلى "إرهاب إسلامي" يرتبط بجهات معينة من دون بذل جهد معرفي أو حتى سياسي في توضيح اتهاماتها، ما يقلل من تأثيرها.

فائض الانفعال "المعمّم" في الرأي العام الفرنسي يُعمي على الحقائق وجذورها، ويتطابق مع ما رشح عن التحقيقات الجارية من تفاصيل عن منفذ اعتداء نيس محمد لحويج بوهلال. وبما أن الأمن الفرنسي يرجّح فرضية "الذئب المتوحّد" الذي لا ينتمي إلى تنظيم بعينه، نكون إزاء مرآة تساوي بين ناظريها في إلغاء كل طرف للآخر؛ سواء بالقتل المباشر أو بالإقصاء ضمن ارتهان مبرمجٍ في كلا الحادثتين إلى عقد ذنبٍ أو انحيازاتٍ مسبقة.

في الحقيقة، إن هذه الصورة مجرد وهم يسوّقه المتنازعون على مفهوم "الإرهاب" وأسبابه وكيفية محاربته، شرقاً وغرباً، ويتغافل هؤلاء متعمّدين أن الفرنسي الذي سيُدين الإرهاب، والمسلم العربي الذي سيتبرأ من المعتدي باعتباره لا يمثّل الإسلام، و"الإرهابي" نفسه يخضعون ثلاثتهم إلى واقع معيشي ضاغط تمليه سياسات اقتصادية متشابهة تقف خلفها منظومة رأسمالية متوحشة واحدة.

وهؤلاء الثلاثة أيضاً لا خيارات سياسية لديهم، بالمعنى العميق للعبارة، فالأنظمة العربية والإسلامية ذاتها التي تنتهك الحريات أو تغيّب العدالة فتدفع مواطنها نحو العنف والتطرّف متحالفة مع الحكومات الغربية في مواجهة "الإرهاب".

يضاف إلى ذلك كلّه، أن الثلاثة أنفسهم لا يمتلكون معلومات كافية عن إدارة سلطاتهم لحربها ضد الإرهاب، ولديهم جميعاً شكوكهم المتراكمة حول المستجدات، بالنظر إلى إطالة أمد المعركة وتوظيفاتها السياسية التي لا تنتهي.

وفي المقابل، تواصل وسائل إعلام "هنا" و"هناك" التضليل في تحديد من "نحن" ومن "هم"، وإجبار المتلقي على الاختيار بين أحد المعسكرين، ولا ينتبه أحد منهما إلى امتثالهما إلى سلطة واحدة تقوم بتحويل الشرق والغرب إلى عبيد محكومين بتأويلاتهم المقرّرة سلفاً، وأحكامهم الجاهزة عن ذاتهم وعن العالم بأسره.

المساهمون