عيسى بُلّاطة: رسالة إلى مترجم شاب

24 مايو 2016
بُلاطه، مونتريال، أيلول 2012
+ الخط -

لا تتوقف قيمة الكاتب والناقد والمترجم عيسى بُلاّطه (القدس، 1929) الأدبية في كونه قد نقل بين العربية والإنجليزية الكثير من الكتب والمؤلفات، بل تعدّى ذلك إلى حفرياته المتعددة في مجالات النقد والبحث الأدبيين وخصوصاً في اجتهادات مثل "نافذة على الحداثة: دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا" والتي أتى فيها على أعمال الأديب الفلسطيني الراحل بخمس مقالات نقدية، ثم دراسته اللافتة عن الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب والتي شكلت أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه.

بالإضافة إلى ترجمة أعمال كـ "شارع الأميرات" و"البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا (1919-1994) إلى الإنجليزية الذي يقول عنه: "كنت أعتبره (أي جبرا) أستاذاً لي آخذ برأيه وكأنني ما زلت تلميذه على مقاعد الدراسة، وأنا الأستاذ الجامعي" مستعيداً تلك السنوات في القدس حيث كان جبرا أستاذه في "الكلّية العربية" في القدس. هذا إلى جانب كتب أخرى ترجمها بُلّاطه إلى الإنجليزية مثل "الجمر والرماد" لهشام شرابي، و"لعبة النسيان" لمحمد برادة، و"الإقلاع عكس الزمن" لاميلي نصرالله وغيرها من الروايات والدراسات والنصوص الشعرية والقصصية.

بُلاطه نفسه درّس أيضاً في القدس، في كل من مدرستي "الفرير" و"المطران"، وكان احتلال بقية فلسطين عام 1967 بداية رحلة شتات عاشها صاحب "عائد إلى القدس" ولم تنته إلى اليوم. في عام 1970 حاز شهادة الدكتوراه من جامعة لندن، ودرّس بعدها في معهد هارتفورد في الولايات المتحدة، قبل أن يبدأ مسيرته الأكاديمية في جامعة "ماكغيل" الكندية في مونتريال عام 1975، كأستاذ وباحث في علوم اللسانيات والدراسات العربية، حيث ما زال منكباً على كتاباته وأبحاثه وترجماته بالنشاط ذاته المعروف عنه.

يقول صاحب "صخر، وحفنة من تراب" (2005): "إن العرب اليوم على مفترق طرق فاصل في مواجهة الحضارة الحديثة، إذ عليهم أن يدخلوا عالم الحداثة مع المحافظة على العناصر الحيّة الناطقة من تراثهم العظيم وعلى أصالتهم وخصوصيتهم في الإبداع"، مضيفاً: "إن العرب في حاجة إلى جرأة في جميع مظاهر الحياة كجرأتهم التي ظهرت في شعرهم الحديث الذي حطموا فيه بعض القيم وحافظوا على بعض آخر وخلقوا شعراً جديداً فيه ملامح وجههم المتشوّق للحداثة" 

في كتابه "إعجاز القرآن الكريم عبر التاريخ" يقدم بلّاطه عرضاً تاريخياً لمسألة الإعجاز القرآني وصولاً إلى العصر الحالي معتبرًا أنه "ليس ثمة من رأي يمكن الركون إليه في شكل نهائي ثابت بالنسبة إلى عناصر وأسباب هذا الإعجاز"؛ واضعاً في هذا الكتاب موضوع الإعجاز، تحت مجهر الفحص التاريخي، في إشارة إلى تطوّر لفظة "إعجاز" التي أصبحت كلمة علمية تشير إلى هذه الظاهرة دينياً على أنها معجزة إلهية ودلالة على صدق نبوّة النبي محمد وبرهان على أن القرآن تنزيل من الله حيث إن البشر فاقدو القدرة على معارضته أو الإتيان بمثله، في الوقت الذي كانت هذه الكلمة قبل ذلك، أي قبل القرن الثالث الهجري تشير إلى "ظاهرة عجز البشر عن مجاراة القرآن في معناه ومبناه (اللغوي)، والتي أشارت إليها الكتابات الإسلامية بلفظة "الإعجاز" منذ تلك الفترة".

على صعيد الترجمة، وضع مؤلف "الرومانسية ومعالمها في الشعر العربي الحديث" (1960) ما يمكن أن نسميه خلاصة خبرته الطويلة على شكل مجموعة من النصائح المقتضبة للمترجمين الشباب يبدؤها بالقول: "ترجم النص الذي يعجبك، النص الذي سيشعرك بالرضى في حال تم نشره" وهي جملة خلاصات جاءت تحت عنوان: "عشر نصائح للمترجمين"، نقلتها عنه مدونة "الأدب العربي" بالإنجليزية على الإنترنت.

جاءت هذه النصائح، تعبيراً عن انحياز بلّاطه إلى جيل "الملتزمين" بالقواعد المؤسسة التي تحكم الأعمال الكبرى، النقد والترجمة والبحث، ولا تغادرها، وهي القواعد ذاتها التي وسمت انشغالاته كلها بالدقة المتناهية والبحث حول التفاصيل الصغيرة، من أجل إكمال الصورة الكبرى.

يذهب صاحب رواية "عائد إلى القدس" (1998) بالنقطة الثانية من نصائح الترجمة بالقول: "لا تتفاجأ إذا لم تحصل نسختك من الترجمة على الاعتراف والإشادة من النقاد ومراجعات الكتب. الترجمة تعتبر أقل أهمية من عملية الكتابة نفسها، لكنها هي من تجعل من الكتابة أمراً عالمياً وعابراً للثقافات وتساهم في نشر منتجات الكتّاب في العالم".

في النقطة الثالثة يقترح بلّاطه أهمية التركيز على الجوانب الثقافية في الترجمة، في إشارة إلى أن عملية الترجمة ليست نقلاً حرفياً من اللغة الأصلية إلى اللغة المترجم إليها، مبرزاً أهمية الالتفات إلى التباينات الثقافية في عملية الترجمة: "عليك أن تقبل حقيقة أن الثقافة تختلف من مكان إلى آخر، وأن كل ثقافة لديها ما تقوله عن الشيء نفسه بطريقة مختلفة".

مؤكداً في النقطة التي تليها على ضرورة التواصل مع متحدّثين باللغة الأم للتشاور حول بعض النصوص الصعبة: "شاور متحدثًا باللغة التي تترجم عنها". مطالبًا المترجم في الوقت نفسه بأن يعتمد على هذا الشخص في عملية المراجعة الكلّية للنص من باب توخّي الدقة والفائدة. وبالإضافة إلى كل ذلك، يقترح مترجم "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا (1995) إلى إبقاء باب التواصل مفتوحًا بين المترجم وكاتب النص الأصلي، إذ إن الثاني هو الأقدر على مساعدة مترجم عمله في الوصول إلى الصيغة الأدق والأسلم، يقول هنا: "اقرأ النص جيداً، وإذا كان بالإمكان اسأل كاتب النص عن بعض المواضع التي تحتاج إلى توضيح".

ولأن الثقافة الخاصة المحمولة على روح اللغة، تنفي كونها مفردات تحلّق في الهواء بشكل منعزل عن سياقها، فإن مسألة إعطاء الأهمية للتعابير الخاصة والتقاليد الثقافية في عملية الترجمة مسألة ترفد الترجمة بهيكلها النهائي، يقول هنا: "عليك أن تكون مُلمّاً بأكبر قدر ممكن من التعابير والتقاليد". مطالباً في الوقت نفسه بضرورة مواصلة القراءة عن هذه الثقافات، ومؤكداً أهمية مواصلة الاطلاع على القواميس المختلفة أثناء ترجمة النص.

لا تأخذ الترجمة عند بلّاطه شكلها النهائي بسرعة، الترجمة عنده، عملية إبداعية تمتزج فيها روح المترجم وصنعته بالمادة المراد إخراجها: "لا تجعل من النسخة الأولى من الترجمة نسخة أخيرة، اكتب، وأعِد الكتابة مرة أخرى بعد قراءات متعددة لترجمتك، قد تنام، وتكتشف بعدها أن هناك ترجمة أفضل يمكن استخدامها لنفس النص".

وأخيرًا: "اقبل الاقتراحات التي تأتيك من محرّرين تثق بهم. المحررون الذين يعملون في المهنة منذ وقت طويل قاموا بالاطلاع على نصوص مترجمة أكثر بكثير مما تظن". ويختم بُلّاطه: "عليك أن تضع في اعتبارك أن الترجمة عملية أدبية إبداعية؛ وأن تعمل بناء على ذلك".


المساهمون