لطالما كانت الحرب مفصلاً يتغيّر بعده الأدب، فيقال أدب ما بعد الحرب، أو المسرح فيسمّى مسرح الحرب، وصولاً إلى السينما والفن التشكيلي ومختلف أشكال الفنون التي تجد نفسها أمام محاولات مختلفة إما للتأمّل في الحرب، أو ترميم الذاكرة، أو لملمة المشاعر والذات أو السخرية من التاريخ، أو التعبير عن القسوة، أو حتى الاندماج في واقع جديد.
هذا ما حدث بعد الحربين الأولى والثانية، وهذا ما يحدث الآن في المسرح العربي سواء داخل البلاد العربية أو خارجها، فلا يمكن تجاهل التغيرات والتموّجات التي تحدث أمامنا في تجارب مسرحية سورية وعراقية... بالنسبة إلى المسرح، فلطالما كان اللجوء والهجرة إلى جانب الحرب، أسباباً في نقلات كبرى في الكتابة المسرحية، ولا أدلّ على ذلك من ظهور "مسرح العبث" بعد الحرب العالمية الثانية.
مع ظهور مسرحيين سوريين، بدؤوا العمل بعد 2011، معظمهم خارج سورية، فإنهم يجدون أنفسهم أمام أسئلة جديدة غير أسئلة سعد الله ونوس، وتقنيات دخلت على النص المسرحي من الميديا الجديدة، أصبح يحضر الفيديو والصورة، إلى جانب وسائط الاتصال الحديث، فيحضر فيسبوك أيضاً على الخشبة، كمفردة من مفردات الحياة وبالتالي يمكن أن يصير جزءاً من النص والسينوغرافيا؛ من أبرز هذه التجارب السورية "ما عم إتذكّر" لـ وائل علي و"بينما كنت أنتظر" لـ عمر أبو سعدة، و"جثة فيل في الصحراء" لـ أيهم آغا، و"النمور" لـ مي سكاف.
في "مهرجان طنجة للفنون المسرحية"، الذي أقيم مؤخراً، عُرضت "الحريق"، التي كتبها العراقي قاسم محمد وأخرجها مواطنه محمد سيف المقيم في باريس، وعنها يقول الأخير "إنّها مسرحية تناص حرّ وحيّ مع حاضر لا زالت آثاره تنحت مأساتنا وتراجيدتها اليومية، تناصّ مع القادم الغامض الذي نجهل ملامحه، تناص مع آلة الملك لير وعبثه بمملكته مع صمت بهلول تجاه أفعال ملكه، حيث لم يعد لسخريته أي نفع بعد خرابها".
ثمّة تجربة أخرى بدأتها الأكاديمية المصرية مروى مهدي في برلين، التي أسّست جمعية "المركز العربي للمسرح"، وبدأت بأرشفة حكايات المهاجرين، خصوصاً النساء، لتوظّفها لاحقاً في المسرح فيما تعتبره مساعدة للطرفين: اللاجئ والمجتمع الذي استقبله، وهذه ليست تجربة فريدة من نوعها، يمكن كتابة قائمة بمسرحيات سورية وعراقية ولبنانية وفلسطينية وبوسنية اعتمدت ما يعرف اليوم بـ المسرح التوثيقي، وهو يستخدم شهادات حقيقية للاجئين وناجين كأساس لبناء العمل المسرحي.
"لسنا أرقاماً" هو واحدة من التجارب التي وظّفت فيها مهدي المسرح لعرض حكايا المهاجرات السوريات وإخراج فيلم عن عملها، تقول في حديث إلى "العربي الجديد" إن "الفيلم هو مشروع اجتماعي وليس فنياً. ساعدنا النساء على التواصل واستخدمنا المسرح أداة للمساعدة، لم نحتج إلى التمثيل، ولكن أدخلنا عناصر مسرحية مثل الديكور والموسيقى والأضواء، كان ذلك نتاج جلسات مغلقة مكّنت النساء من التعبير دون خوف، واستمّر العمل ستة شهور لأنّ التجرّد في عرض قصصهنّ أمام الجمهور الألماني كان تحديّاً غير مدروس".
إلّا أن التفكير في مسرح للمهاجرين "غير ممكن حالياً"، بحسب مهدي التي تضيف "لا يوجد تيّار أو حركة حقيقيّة، ومشروع "لسنا أرقاماً" ليس مسرحاً. هو نتاج مشكلة تواصل الدولة الألمانية مع المرأة المهاجرة التي تواجه الصور النمطية والهواجس والعنف اللامرئي ضدّها والقوقعة التي تفرضها تقاليدها بخلاف الرجل الذي يمكنه الاندماج بسهولة، كما أن المشروع يمثّل أرشفة من أجل إمساك التاريخ من منظور اللاجئين، هو ذاكرة جديدة عن الحياة والموت. و"مركز المسرح العربي" يظلّ مساحة متاحة للاجئين العاملين بالفن والثقافة يمكنهم من خلاله أن يفتحوا حواراً يقود إلى تأسيس مسرح أو فنّ آخر".
ولكن، هل المجتمع المستضيف يُصغي أو يتابع؟ ترى مهدي أن "هذه أزمة أخرى. المجتمع المضيف يعيش صراعاً سياسياً داخلياً. يوجد رفض كبير للاجئين، لهذا عندما عرضنا تجارب النساء، حرصنا أن نوفّر شاشة لترجمة القصص تباعاً، ورغم أن النساء لم يمتلكن إمكانيات للإلقاء إلّا أن الجمهور استمع لسبعين دقيقة متواصلة بانسجام، استطعنا أن نضع المواطن الألماني أمام واقع قاسٍ، لذا لا يمكنه أن يظل يتعامل مع اللاجئين كأرقام على الجرائد فقط".
من جهته يرى سيف أن المسرح بحكم طقوسه واحتفالاته وقواعده في الفرجة والتلقّّي والمخاطبة، "قد يساعد في أن يطمئن المستضيف إلى اللاجئ والعكس. ففي تبادلهما مواقع الأداء والمشاهدة تتفاعل مخاوف وطموحات وقضايا الطرفين فوق الخشبة حيث لا شيء مخفياً".
يظلّ دعم المسرح أو الفرق المسرحية العربية التي تعمل بشكل منفرد في بلاد المهجر أمراً صعباً، تحكمه المنافسة في سوق مفتوحة أمام الفرق المسرحية المحترفة والعروض اليومية في مسارح أوروبا، وترتبط أيضاً ظروف الإنتاج بتقشّف بعض الحكومات، أما المؤسّسات الثقافية العربية فهي عادة ما تضع شروطاً مرتبطة بتوجهاتها السياسية كعتبة أولى للحصول للدعم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ريثما تنتهي الحرب
هناك مسرح خلال الحرب، ومسرح بعد نهاية الحرب، وهناك مسرح بين الحرب وبين نهايتها، أو بينما يُنتظر انتهاؤها، وهذا هو الأقرب إلى مسرح اللاجئين، حيث تدار الخشبة خارج منطقة العنف المباشر، وتقدّم العنف الذي انتقل بوسائط الذاكرة ووسائل التواصل، من هنا يزيد الاهتمام بالمسرح التوثيقي، لكن لمن يقدّم هذا المسرح؟ للأسف، عادة ما يقدّم في مهرجانات عالمية، وغالباً ما يتم التعامل معه كوسيلة إيضاح.