الثورة حيث الألم يكفي الجميع

25 يناير 2016
عاصم أبو شقرا / فلسطين
+ الخط -

لم تكن الثورة يوماً حدَثاً أو شيئاً عارضاً. لقد كانت مختبئة في دواخلنا كأطفال مختبئين خلف العشب، يعلمون أنهم لن يظلّوا هناك إلى الأبد. كانت الثورة مُختبئة فينا، لكنها لم تختبئ إلا لتخرج.. وحين نمت الثورة وصرنا نحن بالنسبة إليها وعاءً ضيّقاً، خرجت.. خرجت منّا مدوّية.

الثورة لا تُولَد لتموت. إنها أزلية.. تغفو حيناً وتستيقظ أحياناً أخرى.. تلملم نفسها وجراحها وشبابها.. تجدّد نفسها على الدوام.

أن أكتب عن الثورة، ماذا يمكن أن أكتب؟ إنه زمن الصمت. حيث الكتابة والكلام يصبحان شيئاً لزجاً وثقيلاً، فعندما يصير الألم هائلاً جدّاً، ويدرك الإنسان أن البكاء شيء ضئيلٌ للغاية، حينها يصبح صامتاً.

ماذا يمكن أن يفعل المرء في مثل هذه الأوقات؟ ماذا كان يفعل غيفارا في أوقات ضعفه؟ نبكي؟ نئن؟ نصرخ؟ نعوي؟ من المؤسف أن الإنسان ليس بمقدوره سوى أن يصرخ ويبكي لمواجهة كل هذا الألم. آخ لو كان بمقدور الإنسان أن ينفجر.

بالنسبة إلي، لم أتمنّ يوماً أن يتوقّف كل هذا الألم. كانت أمنيتي الوحيدة أن أجيد التعامل معه. البكاء، الصراخ، الشعر، الموسيقى.. لا شيء قادراً على ترويضه. لا حيلة لي. لا حيلة لنا. إنه زمن أن نتألم صامتين.

ماذا يمكن أن نفعل؟ نموت؟ هل كانت من مطالب الثورة أن نموت؟ أن نصطفّ في طوابير طويلة كي نلقي بأنفسنا في الجحيم، زاعمين أن الجميع سيحيون حين نفعل ذلك؟ لكن ذلك لم يكن صحيحاً. فالجميع ينتظرون أدوارهم في الطوابير أيضاً. لا أعرف ماذا من المفترض أن نفعل. ما أؤمن به، وما آمنت به دائماً، هو أنه لا بد من الثورة.

لكن ماذا يمكن أن نفعل؟ أعطونا علماً لنرفعه، أعطونا رصاصاً لنواجهه. أعطونا غضبنا الذين استنزفوه من أرواحنا وزرعوا مكانه يأساً وخيبة. أعطونا ثورتنا.. حتى ولو لن نفعل شيئاً سوى أن نموت من أجلها. أن نموت؟

هل كان من مطالب الثورة أن نموت؟ علينا أن ننتزع حياتنا انتزاعاً. نحن لم نخرج كي نموت.

وحين أدرك الجميع ذلك، أخذوا يبادرون بموتهم. هذا ما حصل فعلاً.. لا أحد يريد أن يعيش مواجهاً ضعفه. جميعنا نعلم أنه علينا أن نعيش لأجل قضايانا، لا أن نموت لأجلها. إنها تحيا بحياتنا.. تأخذ دمنا من عروقنا وتُسيله في عروقها. علينا أن نعيش من أجل قضايانا لا أن نموت. جميعكم تفرّون إلى الموت، حتى صار الموت هدف كل واحد منكم.. اليأس.. اليأس هو ما يدفع الناس إلى الموت في سبيل قضية يعلمون أنها لن تنتصر أبدًا. علينا أن نعيش لأجل قضايانا. لا أن نموت لنُسقط حملها من على كاهلنا.. انظروا حواليكم.

إنهم يقضون علينا واحداً واحداً كأرانب في قفص. لننقذ أنفسنا. من يريد أن يموت كأرنب في قفص؟ هل من البطولة أن يموت أرنب في قفص؟ الحياة دائماً تستحق أن نقاتل لأجل الحصول عليها. قاتلوا لأجل الحياة.. أقول ذلك رغم أني قاتلت ولم أحصل على شيء.

حتى وإن لم تنتصر الثورة، على الأقل، سنصعّب الأمر على هؤلاء الأوغاد. علينا أن نظلّ أحياء وثائرين دوماً، كي نُصيّر حياتهم جحيماً. سنعيش. لا أحد سيهتم بموتنا. سنعيش، لن نموت كما يموت ذباب على نافذة، علينا أن نعيش حتى لو لم نفعل شيئاً غير أن نضرب بأكفّنا صدر هذا العالم. سنعيش، لن نموت كأرانب في قفص، سنجلس على صدر هذا العالم كصخرة ثقيلة، أو كرصاصة في القلب. سنعيش، أنا أقسم بذلك.

الثورة لم تمت.. إنها لا تموت. الثورة أزلية.. تخلق نفسها بنفسها دائماً.. تأكّدوا من ذلك. ما تزال الثورة تعيش في دواخلنا.. لكن وبعد هذه السنوات، إنها لا تعيش كجرح أو ندبة، بل كهاوية. هاوية عميقة بالكاد نطلّ منها على أحلامنا.


اقرأ أيضاً: ربما عليّ أن أودعكم الآن

المساهمون