جداريات فادي يازجي أو الحياة كلعبة دموية

08 يوليو 2015
من أعمال المعرض الحالي في بيروت
+ الخط -

لزائر معرض الفنان السوري فادي يازجي، المقام حالياً في غاليري "تانيت" في بيروت والمستمر حتى 11 يوليو/تموز الجاري، أن يتساءل إنْ كانت منحوتاته البرونزية والطينية تنحدر من خلفية معاصرة، إن كان لها شَبَهٌ في الحاضر أو قرين يوازي حضورها ويعكس مصدرها.

الوجوه دائرية متشابهة، مستلّة من بئر الزمن، متحفيّة إذا صحت المقارنة، كما لو أنها لكائن واحد قديم، غير أنها في وضعيات متعددة متلاحقة من منحوتة إلى أخرى. تجاورٌ صعبٌ، ومرافقة متينة، وسيلان قوي. لا شيء يمكن فكّه أو نزعه عنها.

إنها ممسوكة بقوة كما لو كانت معتقلة أو سجينة، داخل وضعيات تتوالى وتتسابق، لكنها في حال من الضيق الشديد والعجز المديد وضآلة الحيّز. ثمة مكعّبات صقيلة تجمع هذه الكائنات حولها، كما لو كانت الصلة الوحيدة بينهم. صلة تتعزز من خلال متوالية تُبقي الكائنات معلقة على الحواف، سائلة ومتراصة بالمكعّب من كل وجوهه الستة، في وضعية رجحان ثابت ومضغوط ومتعاقب. ثمة كذلك الشجرة التي ثمارها رؤوس مقطوعة.

الصلة بين المأساة السورية والمنحوتات لا تحتاج إلى برهان. الالتصاق والكثرة وتبادل المواضع والتشنج الملتوي المتكرر، كلها توحي بكابوس بلا نهاية. ثمة ما يتوالى ويستمر، يتعاقب ويتكرّر داخل شَرَك من دون توقف.

الكائن المنكفئ أحياناً في وضعية جنينية يتحوّل إلى آخر ذي جناحين صغيرين، وثالث بكتف مبتورة، ورابع يميل برأسه ليرى ما حلّ بمن جنبه. ليس هذا الكائن المتحوّل والمحبوس واللاهث طفلاً ولا ملاكاً، لكن به ملامح رقة الطفل وطيف الملاك.

غير أن لا أحد يولد هنا وسط الرفاة، ولا أحد يقدر أن يطير من تحت الطين. لقد عُجن الحلم بالطين الثقيل وانصهر بالآجرّ الصلب، وحمل البرونز المشدود برداً أسود ولمعاناً قاتماً.

جداريات يازجي الطينية ذات نَفَس ملحمي. لقد حوّل الواقع المرير واختصره وردّه إلى أصله وبذرة شقائه، ثم وسّع منه كما تتسع صرخة مخنوقة إذ حمله إلى جداريات توحي بحرارة عتيقة وراهنٍ سرعان ما يتحوّل إلى ماضٍ كله خدوش وشقوق. ها هنا يتجلد الزمن في الطين المتعب بعدما ضمّ الأخير كائناته الهاربة، وتبزغ الوجوه الحائرة من القاع الترابي الأحمر، كي تستعيد ما لم يعد بوسعها استعادته.

الطين والبرونز يتحوّلان إلى حكاية. الصلابة أخت الهشاشة، والأصل الحي يجاور الثمرة المبتورة. لقد تدحرجت الحياة وسالت رؤوسها وتحوّلت إلى لعبة دموية، وصارت الكائنات رموزاً تتراكم دون عدّ وتتقابل كما لو كانت داخل مرايا تضاعف الوجوه والمصائر. إنها تتلوى وتتضامّ، تتوازى وتنقلب، تتقادم وتنحني، وتبقى داخل الإطار نفسه. لا مخرج لها سوى ما هي عليه: الوحدة القصوى والبعد السحيق.

المساهمون