أحمد بن حنبل.. هوّة بين الإمام والمذهب

02 يوليو 2015
مخطوط منسوب لابن حنبل
+ الخط -

يُحْكَى أنّ المحدّثَينِ الكبيرين، أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، دخلا مسجد الرّصافة، فإذا بأحد القصّاصين يتصدّى للدرس، ويقول: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين... (وأخذ في قصة طويلة شيئاً ما) لا يعرف أحمد ويحيى عنها شيئاً!

وقد أخذ أحمد ينظر إلى يحيى متعجباً، ويحيى ينظر إليه، ويقول كل منهما لصاحبه: أنت حدثته؟ فيجيبان بعضهما بعضاً: لا واللهِ. فلمَّا فرغ القصاص وأخذ الدّراهم؛ قال له يحيى: تعالَ. من حدثك بهذا؟ فأنا يحيى وهذا أحمد؛ فإن كان ولا بدّ فالكذب على غيرنا. فقال: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أنك أحمق ما علمت إلّا الساعة! كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما؟ كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا. ثم تركهما وهو يستهزئُ بهما!

صحيح أن هذه الحكاية الطريفة مشكوك في صحتها لدواعٍ إسنادية، لكنّ الوقائع تثبت أنّ الإمام أحمد لم يكن بمعزل عن التَّقولِ عليه، كغيره من العلماء الذين امتلأ التراثُ بأقوالٍ نسبت إليهم زوراً.

تؤكد النقول الثابتة أن الإمامَ كان حازماً في رفض تدوين آرائه الفقهية، وفقاً لقناعات منهجية وإيمانية واضحة، وهو ما وصّى به المقربين الذين نفذوا وصيته، ولم يكن بجواره في سنواته الأخيرة أدنى من ابنيه "صالح" و"عبد الله" وابنِ أخيه "حنبل". وهم الذين نشروا جلّ تراثه الحديثي رواية ودراية.

من أقواله الكثيرة في هذا الشأن: "كلّ من وضع الكتب فلا يُعجبني"، و"من وضع شيئاً من الكتب فهو مبتدع". وسئل عن رجلٍ وضع كتاباً، فقال: "قولوا له: أحدٌ من أصحاب النبي فعل هذا؟ أو أحدٌ من التابعين؟ فاغتاظ، وشدَّدَ في أمره، ونهى عنه، وقال: "وما تصنع بالرأي، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟"

تمثل تلك الأقوال روح المدرسة التي ينتمي إليها الإمام أحمد، فهي مبادئ تعلّمها من أساتذته؛ مثل عبد الرحمن بن مهدي القائل: "إذا وضع الرجل كتاباً من هذه الكتب، كتب الرأي، أرى أن لا يُكتب عنه الحديث، ولا غيره".

توفي الإمام سنة 241 هـ من دون أن يؤلف الفقه، أو يملي شيئاً منه، أو يسمح به. لكننا بعد قرون وجدنا أنفسنا أمام مذهب متضخم، له أنصار متعصبون، وآراء مكتظّة في مجلدات متضخمة، وأصول لهذا الفقه، وحكايات مرسلة محبوكة في كتب المتأخرين عن جلوس الإمام للفتوى، وكيف أنه كان يجلس له في المسجد أكثر من خمسة آلاف مشاهد!

من أين جاؤوا بهذا كله؟ وقد كان أحمد منقطعاً عن الناس سنوات طوال قبل رحيله بسبب العزلة السياسية التي فرضت عليه بعد الفتنة، ثم برغبة منه بعد تغيّر الظروف السياسية إلى أن مات.

لا نكاد نجد لذلك سوى تفسير عجيب لابن القيّم إذ يقول: "وكان، رضي الله عنه، شديد الكراهية لتصنيف الكتب وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامُه، ويشتد عليه جداً، فعلم الله حسن نيته وقصده؛ فكُتِبَ من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفراً، ومنَّ الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يَفُتْنا منها إلّا القليل، وجمع الخلال نصوصه في "الجامع الكبير" فبلغَ نحو 20 سفراً أو أكثر، ورويتْ فتاويه ومسائله، وحُدِّثَ بها قرناً بعد قرن، فصارت إماماً وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم"!

وهكذا تجاوزَ ابن القيم المعضلة؛ بأن حسن النيّة كان كفيلاً بأن يتفضل عليه الله -عز وجل- بنشر آراء لم يكن أحمد مؤمناً بها، وكتبٍ لم يكن مقتنعاً بنشرها.

بينما يرى ابن تيمية أنّ "كلام أحمد كثير منتشر جداً، وقلّ من يضبط جميع نصوصه". وأن الخلال "فاته أمور كثيرة ليست في كتبه". فالباب إذاً لا يزال مفتوحاً على مصراعيه لإضافة المزيد من الآراء والحكايات.

كان أبو بكر الخلال (234- 311 هـ) صاحب المذهب الأول طفلاً لم يتجاوز السابعة من عمره حين توفي الإمام. ويقولون إنه بذل عمره في جمع الفقه الحنبلي، ودوّنه في كتاب "الجامع الكبير" الذي تحدثت عنه الأجيال اللاحقة، وهو كتاب مفقود لم يتسنَّ لأحد من أنصار المذهب ومصنفيه أن يترك لنا نُسْخَةً مخطوطة أو قطعةً منه على الأقل.

وعلى امتداد القرون التالية ظهرت تلالٌ من المصنفات الحنبلية التي أطلقت لنفسها العنان لتنسب إلى الإمام كمَّاً ضخماً من الفتاوى، ثم تختصرها تارة وتشرحها أخرى، دون العناية بتوثيق نسبتها للإمام، وكلّ يدّعي وصلاً بـ "كتاب الخلال" المفقود.

تفتح أقدم كتب المذهب، وهو (مختصر الخرقي) لعمر بن الحسين الخرقي (ت334هـ)، فلا تكاد تظفر فيه بدليل أو برهان، بحجة التيسير على الطلاب. وقيل: "إنه شُرِحَ بثلاثمائة شرح".

وظلت تناقضات الأحكام داخل المذهب الشّغل الشاغل للمصنفين، كالحجاوي (ت 960 هـ) الذي أزعجته كثرة الأقوال المتضاربة والمسائل الجدلية؛ فعمل على اختيار الراجح منها في كتابه "زاد المستقنع في اختصار المقنع"، كما فعل من قبله المرداوي (ت 885 هـ) في كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف".

يمكن للباحث أن يرصد أمثلةً كثيرة تدل على حجم الهوّة بين الإمام والمذهب الحنبلي، ويعدد المسائل المتناقضة بين أحمد والحنابلة، حين يراجع ما كتبه الإمام في علل الأحاديث أو أملاه على تلامذته في السؤالات. ثم إعادة عرض هذه الأقوال على الأبواب الفقهية المناسبة في كتب المذهب، وسيحظى بسفر معتبر وفوائد قيمة.

ويبقى أن ابن القيم عندما يتحدث عن أصول الفقه الحنبلية كان يبني كلامه على تراثٍ يتكون من كتاب ضائع للخلال، وعشرات المجلدات التي حملت فتاوى وآراء نُسبت ودونت للإمام بعد زمنٍ طويلٍ من رحيله، بلا إذن منه في جميعها، ولا إسناد لها في معظمها. فكانت الأصول التي لا يعرف عنها الإمام شيئاً، بناءً على الفتاوى التي لم تثبت عنه، من خلال الكتاب الذي لم يصل إلينا.

ما يعني أن الواقع كان أكثر تعقيداً من حكاية السبعة عشر أحمد بن حنبل المزعومة.


* كاتب من مصر 

المساهمون