اللغة العربية.. ساقية العلوم المُعطلة

23 يونيو 2015
اسطرلاب أبو بكر بن يوسف (متحف "المغرب الوسيط"، الرباط)
+ الخط -

لقد بنى العرب في العصر العباسي نهضتهم العلمية الأولى عن طريق نقل علوم الهنود واليونانيين. وفي العصر الحديث حاولوا بناء نهضتهم الثانية بنقل العلوم عن الفرنسيين والإنجليز. لا مفر من النقل، لكن شتان بين نقل الأولين والآخرين، لقد نقلنا في العصر العباسي نقلاً عاقلاً، أما في العصر الحديث فنقلنا، وما زلنا ننقل، بلا عقل.

وعى الأوّلون "النقل" وخطورته. فحين قرّروا نقل العلوم، فعلوا ذلك بلغتهم وتمسّكوا بها، فكان نقلهم نقلاً عاقلاً، ولم يتركوا شاردة ولا واردة في علم من العلوم إلا ونقلوها وطوّعوها لمحيطهم ورؤيتهم العربية.

لم يتذرّعوا بأن لغتهم ستُعيقهم عن متابعة ما توصّلت إليه البشرية من معارف نظرية (الفلسفة) أو عملية (العلوم). فإذا ما نقلوا، نقلوا المعارف ولكن بلغتهم، سواء من خلال المطالعة المباشرة، إذا كانوا ممن يجيدون اللغة الأخرى، أو من خلال تجنيد مترجمين، إذا لم يجدوا لهذه اللغة أو تلك سبيلاً. كما لم تجبرهم اللغة الفارسية أو الهندية أو اليونانية على تبني مواقف، حتى أنهم كانوا كلما ترجموا، أخذوا الكثير من العلوم والقليل من الآداب.

وبين هذا وذاك، حافظوا على المسافة التي تميّزهم عن الآخر، وفي الوقت نفسه تفصلهم عنه، بدون أن يؤثر ذلك على مسيرتهم نحو التقدم، فلم يرفضوا العلوم الهندية أو اليونانية بحجة أنهم لا يعرفون لغاتهم، أو بحجة خطر هذه اللغات على لغتهم، كما يدّعى بعضهم اليوم. فنراهم إذا ما نقلوا عن الهنود واليونانيين علومهم، لم يتمثلوهم لا في لغتهم ولا في ثقافتهم ولا في عادتهم ولا في تقاليديهم. على عكس ما نراه اليوم من تمثل للمحتل السابق، إنجليزياً كان أو فرنسياً، حتى في تتبع عاداته وتقاليده.

وهكذا لم ينفصل الأوّلون عن واقعهم العربي، بل أخذوا يقتربون منه أكثر فأكثر بفضل العلوم التي أخذوها من غيرهم، لخدمة هذا الواقع وحل مشكلاته على الوجه الذي جعلهم في خلال قرون معدودة وجهة لمن أراد من أبناء الأمم المجاورة أن يأخذ عنهم العلم. فكان الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم منارات عربية إسلامية تضيء لشعوب أخرى. ثم ما لبث أن دارت دائرة التاريخ، فأخذت الأمم الأخرى تنقل عن العرب علومهم التي أبدعوا فيها بعد أن فهموها ودوّنوها بلغتهم العربية.

إننا نرى، من خلال تجربة العرب سواء كانوا هم الآخذين أو كان الآخرون آخذين منهم أن أول مفتاح للعلوم هو النقل، النقل العاقل ثم الفهم.

وما زالت أوروبا تنقل عنهم علومهم بداية من القرن الثاني عشر الميلادي، نقلاً عاقلاً أيضاً، حتى الوقت الذي خبت فيه شمعة العلوم العربية تحت الاحتلال العثماني (القرن السادس عشر الميلادي).

ومن المعلوم أن أوروبا لم تنقل عن العرب بالعربية، بل نقلت، هي الأخرى نقلاً واعياً عاقلاً، أي بلغتها وهي اللاتينية الوسيطة التي استمرت لغة للعلم في أوروبا حتى طغت عليها لغات الأمم، التي خرجت من رحم أوروبا اللاتينية. هذه الأمم هي التي تتربع، اليوم، على عرش العلم في عصرنا الحديث؛ إنجلترا وفرنسا وألمانيا.

لم يلبث هؤلاء أن رفضوا لغة اللاتين كلغة علومٍ، عدّوها وطنية، فنقلوا العلوم من اللاتينية الوسيطة إلى لغاتهم الوطنية نقلاً واعياً عاقلاً أيضاً، وتعلموا العلم وعلموه وأنتجوه، وما زالوا ينتجونه بلغاتهم ووفق واقعهم وحلاً لمشاكلهم. وكي لا ينفصلوا عن تاريخهم، أبقوا على اللاتينية في مدارسهم الثانوية ومؤسسات علومهم.

ففي إيطاليا، على سبيل المثال، يدرس أكثر من مليوني طالب اللغة اللاتينية كلغة أجنبية اختيارية في الثانوية العامة، أما في ألمانيا فيصل العدد إلى نصف ذلك. ولا يخفى على أحد أن العلم في اليونان لا يزال يونانياً.

أما نحن، فقد بنينا نهضتنا العلمية الحديثة، في مطلع القرن التاسع عشر، على علوم الفرنسيين والإنجليز، ولا عيب في ذلك، فهكذا فعل أجدادنا في نهضتهم الأولى، وكذلك فعلت أوروبا في نهضتها الحديثة، كما أسلفنا.

لكننا وللأسف، لم نعقل خطورة النقل فتنصّلنا أول ما تنصلنا من لغتنا العربية، ثم قطعنا صلتنا بماض علمي عريق، فانفصلنا بذلك ليس فقط عن ماضينا بل عن واقعنا الحاضر، سواء في ما بيننا، نحن العرب، أو بيننا وبين غيرنا من الأمم، فتقدموا هم بلغاتهم وتخلفنا نحن بلغاتهم.

وهكذا كان نقلنا، ولا يزال، نقلاً غير مبصر ولا عاقل. فلا تفرنسنا ولا تأنجلزنا، بل ظل لساننا عربياً، لكنه لسان عربي غير مبين. ويكفي، لكي نعرف وهم إتقاننا للغات غير لغتنا، أن تطالع مؤشرات إتقان اللغة الإنجليزية على مستوى العالم لتجد الدول العربية في ذيل القائمة.

ولا يزال بين أظهرنا من يدافع عن اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، لغة للتدريس لطلاب يولدون بالعربية ويعيشون بها، على الرغم من أن واقع جامعتنا العربية يقول إنه، بسبب تمسك هؤلاء بهذا الوهم (أقصد وهم نهضة علمية بلغة أجنبية)، ما زالت جامعاتنا في قاع التصنيف العالمي.

تصب كل هذه العوامل في مشهد واقعنا العلمي، والذي لا تخفى على أحد حقيقته اليوم. إذ يقول هذا الواقع إننا لا نملك من العلم إلا القشور، لأننا دخلنا السباق الخاطئ، فبكل بساطة لن نستطيع أن نتفوّق على الإنجليز أو الفرنسيين في فهمهم للغاتهم، كما أنهم لن يغلبونا في فهمنا للغتنا العربية التي تنصلنا منها في شتى مناحي الحياة، واحتقرها بعضنا واعتبرها عامل انحطاط ثم طفق يتنكر لماضيها العلمي الذي شهد العالم بعلوّ شأنه.

يشهد واقعنا العلمي الحالي علينا، وعلى تقصيرنا، كما يشهد ماضينا العلمي على أجدادنا وعلى حسن نقلهم وفطنتهم، فنقلوا بلغتهم ففهموا وأبصروا وأبدعوا فتفوّقوا. أما نحن فما زلنا في نقلنا الثاني بلا عقل، ننقل بغير لغتنا، فلم نفهم ولم نبصر فتخلفنا.

هكذا نرى أن الإدانة العمياء للنقل هي قراءة أقرب للتعطيل منها لإرادة الإصلاح. فالنقل والعقل عملية حضارية واحدة. النقل بلا عقل استمرار في التأخر، والعقل بلا نقل بناء في الفراغ.

المساهمون