قفا نحكِ عن "السانات"

23 مايو 2015
محي الدين حيدر (1892-1967)
+ الخط -

في بداية عهد الجمهوريّة التركيّة، حُظرت موسيقى الـ"سانات" لبعض الوقت، لكونها تراثاً عثمانيّاً حسب تفسير النقّاد الذين حسموا الجدال في نسبتها مؤّخراً؛ إذ لا يمكن عدّها تركيّة خالصة طالما أنّ جميع الشعوب التي انضوت تحت لواء الدولة العثمانيّة ساهمت في تأسيسها وتطويرها، كما كانت التأثيرات الفارسية واليوناية واضحة فيها.

عندما منعت الجمهوريّة موسيقى السانات أسمتها "موسيقى القصور"، وحين أفرجت عنها أطلقت عليها اسم الموسيقى الكلاسيكيّة التركيّة. بدأت السانات في القرن العاشر ميلادي، وازدهرت في عصر السلطان سليم المعروف بيافوز مع التحوّلات التي طرأت على المقامات والعلامات الموسيقية.

قنواتٌ تلفزيونيّة عدّة كانت تعرض الغناء الكورالي والأداء المنفرد لوصلات السانات الكاملة، لكنّها تحوّلت الآن إلى عرض أغاني الفيديو كليب الخفيفة. رغم ذلك ما زال بعض المهتمين في الموسيقى التركية يعملون للإبقاء على السانات وترسيخها، إذ لا يمكن تصوّر الموسيقى والغناء التركيين من دون هذا النمط المميّز، إذ تؤكد النخبة الموسيقية أنّ عولمةَ الموسيقى لن تلغي هذا الفن، برغم أن التأليفَ فيه توقّفَ منذ قرابة قرن.

إثرَ وفاة الرئيس التركي كنعان إيفيرين صاحب انقلاب 1980 في التاسع من شهر أيّار الجاري، ظهرَت مغنيةُ السانات الأشهر حالياً بولنت أرسوي (إسطنبول، 1952) لتجهرَ بأنّها لن تصفح عنه؛ ذلك أنّ بولنت - وهذ اسم مذكّر، وقد نشأت كذلك على أنّها ذكر - احتُجزَت أسابيع لإعلانها في حفل عن مثليّتها الجنسية، وخضعت لقانون إيفيرين بعد إجرائها عمليّة تبديل جنسها إلى أنثى في لندن عام 1981، فمُنِعت من الغناء، ما اضطرّها للانتقال إلى ألمانيا، وهناك حاولت الانتحار.

عندما عُدِّلَ القانون التركي 1988 ليُسمَحَ للأتراك بتحويل جنسهم عادت أرسوي بعد سنوات مريرة، لم تخلُ من النجاح على الصعيد الفنّي، إذ أحيت عدّةَ حفلات، أشهرها على مسرح "ماديسون سكوير غاردن" في نيويورك 1983. تتمتّع أرسوي بقوّة الصوت، وقدرة على أداء الأغنيات الصعبة، بيد أنّها كباقي مؤدّيي السانات الحاليين؛ لم تثبت على غناء هذا النمط البطيء الذي خسر مستمعيه مع الوقت.

أواخرَ القرن التاسع عشر برزَ اسم محي الدين حيدر (1892-1967)، وهو عازفُ العود ذو الأصول العربية الذي ولدَ بإسطنبول 1892 وأصبحَ فيما بعد من أبرع العازفين والمؤلّفين. أدارَ معهدَ الموسيقى في بغداد 12 سنة. على منهجه في العزف والتأليف نشأ جميل بشير، ومن بعده منير بشير، ووصلت التأثيرات تواتراً إلى نصير شمّا.

كما اشتهر طاطيوس أفندي الأرمني الأصل (1858-1913) في تأليف السانات أما طاطيوس أفندي فشاعت أغنياته ومقدّماته الموسيقيّة خارج الأناضول، وما زالت رائجة حتى الآن، واستُعملَت إحدى مقّدماته كاستهلال لأغنية "ليه يا بنفسج"، التي غنّاها صالح عبد الحي من كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي.

أما موسيقارَ السانات الشهير زكي مورن فقد شبّهه البروفيسور مارتن ستوك بعبد الحليم حافظ لإفراط الاثنين في الإحساس. ولد مورن 1931، درسَ الديكور في معهد الفنون الجميلة، لكنّه سرعان ما انتقل لاحتراف الغناء والتلحين، وحمل ألقاباً عديدة تنسبُ إليه بلوغَ القمّة.

إلى جانب ذلك كتبَ مورن القصائدَ، فصدرَ له ديوان (المطر السلوى) 1951، ومثّلَ في السينما 18 فلماً. يميّزُ صوتَ مورن في أداء الأغنية المطاوعةُ ودقّةُ اللفظ، ويميّزُ مظهرَه، وبخاصّة في سنواته الأخيرة ميلُه الصريح نحو الأنوثة في المكياج والإكسسوار والرداء النسائي الفضفاض البرّاق وفي وضع شعر اصطناعي أشقر ذي تسريحة نسائية، وأُشيعَ عنه ما لم يصرّح به عن مثليّته الجنسيّة.

لم يثبت مورن في أداء السانات ومن خلفه فرقة التخت الشرقي، فقد استهوته الآلاتُ الكهربائية القادمة من الغرب قبل عقدين وأكثر من وفاته فوق خشبة أحد مسارح إزمير.

نلتقي إذا ما مررنا في شارع الاستقلال بإسطنبول أو بشارع قبرص في إزمير فرقاً صغيرة خلال الزحام، متّخذةً أمكنةً للعزف والغناء، وأحياناً تؤدّي الألحانَ داخلَ مطاعمَ شعبيّة، ونلحظُ أنّ أعضاء تلك الفرق من كبار السن. ونصادفُ فرقاً شعبيّة بآلات قليلةٌ، تحيي حفلات المولد والطهور. وقد نجد في حديقةٍ ما عازفَ كمانٍ عجوز يؤدّي لحنَ سانات قديم، والناس يصعدون يهبطون على أدراجٍ طويلة تقطعُ الحديقة، قليلون منهم ينتبهون إلى لحن طاطيوس أفندي ترسلُه أوتار الكمان المعمّر.

المساهمون