"كان".. الصورة على سجّاد أحمر

17 مايو 2015
لقطة من الإعداد لافتتاح الدورة 68 (تصوير: تريستان فيوينغز)
+ الخط -

كعادته، يقام مهرجان "كان" في شهر أيار/ مايو من كل عام، يوزّع جوائزه على النجوم والمواهب الصاعدة، يكرّس بعض الأسماء ويضع فوق سكك النجومية أسماء أخرى. هناك، فوق السجادات الحمراء وأمام شواطئ الكوت دازور المتوسطية، أصبح الجميع يعلم أن "كان" ليس مهرجان سينما فحسب؛ إنه مهرجان وسوق، تاريخ وعلاقات عامة، كفاءات مهنية واستعراض، كواليس أفلام وصراع لوبيات، كل ذلك في إطار سياحي إبهاري.

مئات السينمائيين، من ممثلين وتقنيين ومخرجين ومنتجين، يتحوّلون إلى جنوب فرنسا كل ربيع، وبالتوازي معهم يحلّ أكثر من خمسة آلاف صحافي وعدد أكبر من المتابعين، من محبّي السينما والسياح. يقول منظمو "كان"، دون تأكيد إحصائي، إن المهرجان أكثر الفعاليات الثقافية السنوية متابعة إعلامية في العالم. لكن، ترى كيف اكتملت لـ "كان" كل هذه الحظوة؟ أيّ سر جعله هو بالذات يأخذ هذا الموقع؟

ليس بسيطاً اتخاذ طريق يجمع بين النزعتين النخبوية والتجارية اللتين تتجاذبان عالم السينما. ومن الصعب أن يستطيع مهرجان الاستفادة من كل ما حوله، كما فعل "كان"، ولا بد له، والحال كذلك، أن يدخل لعبة التوظيف والمصالح.

إن "كان" ظاهرة تشكّلت من عوامل عديدة على مرّ العقود. ومن دون إدراك موقع فن السينما في الحياة العامة للشعوب منتصف القرن العشرين لا يمكننا فهم الظاهرة. كما أنه من دون أن نأخذ في الاعتبار مرور الميديا إلى أوسع نطاقات الجماهيرية في العالم، مع بداية الألفية الجديدة، لا يمكننا أيضاً فهمها.

"كان"، ببساطة، هو ذلك التقاطع بين السينما والميديا. فلا غرابة، بعد ذلك، في أن يصبح مُعبّراً رئيساً عن ثقافة غالبة، وأن يكون أحد الوجوه المزيّنة لنظام عالمي يحتاج إلى منصّة لتوجيه الأذواق كما يحتاج لموعد قار، ما يشبه حجّاً سنوياً، يعيد فيه إنتاج نفسه تحت الأضواء.

"كان" هو الملعب الأبرز لنزعة استعراضية في الملبس وفي تصوير النجوم، يحتفى فيه بقيم البهرج والتنافس والتحرّر الفكري الجسدي، وتمرّر هذه القيم الجديدة للمجتمع/المستهلك في شكل صور عالية الدقة والجمالية. منظومة تكون فيها صالة السينما معبداً، والانبهار بالصورة طقساً لعبادة النجوم. أُلبس "كان" هذه البدلة المفصّلة، فأصبح فضاء لتداول قيم العصر التي تفرضها السياقات والأسواق بعيداً عن وجهها الأميركي المكشوف.

تبدأ قصة "كان" من سنة 1939 بمبادرة من الوزير الفرنسي جان زاي لإنشاء مهرجان سينمائي ذي بعد دولي ضمن فهم لدور ثقافي "مشعّ" لفرنسا ومنافسة المهرجان السينمائي الأبرز وقتها، "موسترا دي فينيسيا". كان لوي لوميير، أحد مخترعي التقنية السينمائية، من بين المؤسّسين. لكن النسخة الأولى لم تدم سوى أيام ثلاثة، فقد توقّفت مع خبر غزو القوات الألمانية لبولونيا، لتدخل أوروبا الحرب العالمية الثانية، فيوضع المشروع جانباً.

بنهاية الحرب، عاد المهرجان في سنة 1946. كان مناسبة للاحتفال بانتصار الحلفاء واعتبرت عودته انتصاراً للفن. لن يتوقف المهرجان بعدها، سوى في دورة 1968 حين هزّت فرنسا مظاهرات الطلبة. وكان هذا الانقطاع سبباً في مراجعة لدور المهرجان وتطويره.

استفاد "كان" من موقع فرنسا في صناعة السينما، فبلاد ديغول تمثل مفارقة؛ هي مهد التقنية السينمائية من جهة، لكنها ليست ضمن كوكبة التنافس السينمائي على الأسواق العالمية، فالأفلام الفرنسية ونجومها لا يمكن مقارنتهم بمُنتَج هوليوود الأميركية، السينما السوفياتية، سيني شيتا الإيطالية، وحتى بوليوود الهندية.

جعلت هذه العوامل من فرنسا ضيفاً محايداً. انتهزت الدولة الفرنسية هذا التوافق الدولي، لتجعل من "كان" علامة مسجلة. ولعل سبباً من أسباب تواصل نجاح "كان" هو أن فرنسا طالما أرادت أن تكون عرّابة "الثقافة الراقية" في العالم.

على المستوى السينمائي، ظل المهرجان يتطوّر مع الإبقاء على ثوابته. عديدة هي الفعاليات التي تقام بالتوازي مع عرض الأفلام والمسابقات الرسمية لمختلف الأشكال السينمائية، مثل "أسبوع النقاد"، "نصف شهر المخرجين" أو برنامج "سينما العالم"، ولعل مبادرة "سوق الفيلم" تعد عامل جذب رئيسياً، فقد مأسس هذا الفضاء ما كان يعتبر مجال انتقاد المهرجانات السينمائية وهي النزعة التجارية.

لـ"كان" سطوة تبدو جلية لو نظرنا في خارطة المهرجانات المحيطة به، وخاصة في فضائنا العربي. من أيام قرطاج السينمائية في تونس إلى مهرجان واغادوغو في بوركينا فاسو، ومن الإسكندرية إلى المهرجانات السينمائية الخليجية الجديدة، يبدو الجميع رغم الخصوصيات والفوارق مثل تنويع على "كان". ولو نظرنا في قائمة فعاليات هذه المهرجانات، فمن الصعب أن نعثر على ما لم يأت به المهرجان الفرنسي.

بعد أن راكم التقديرات، وظلّ لقرابة سبعة عقود تحت الأضواء، كيف يوظف "كان"؟ إن المُجسّد المفضل لقيم عصر استهلاك الصورة يلعب أدواره المزدوجة وهو يقدّم للسينمائيين اعترافه وسعفته الذهبية.

المساهمون