علاء خالد.. الظل الآخر للأشياء

13 سبتمبر 2014
تصوير: سلوى رشاد
+ الخط -
منذ انطلاق مساره عام 1990، مع ديوانه الأول "الجسد عالق بمشيئة حبر"، وعلاء خالد (1960) يتنقل بين أكثر من حقل كتابي، من الشعر إلى الصحافة، مروراً بالرواية وكتابة الرحلة. أسس عام 1999، أسّس مجلة "أمكنة" بالتعاون مع المصوّرة سلوى رشاد، رفيقة دربه، والشاعر مهاب نصر، ثم أصدر كتاباً عن رحلته إلى واحة سيوة بعنوان "خطوط الضعف" (1995)، فرواية، هي الوحيدة له حتى الآن، بعنوان "ألم خفيف كريشة طائر تتنقل بهدوء من مكان إلى آخر" (2009).

رغم ذلك، لا يقدّم علاء خالد، في ما يخص تجربته الكتابية، أي شيء على الشعر. إنه وسيطه الأدبي الأقرب إلى القلب، وليست حقول الكتابة الأخرى سوى استطرادات له. هكذا يتحدث عن اللحظة التي تعرّف فيها إلى نفسه كشاعر، فيصفها بـ"لحظة مخاطرة دفعت بملَكَة جديدة من ملكات النفس إلى الصدارة".

يلاحظ المتابع لمنجز علاء خالد نبرة غضب وسمت بداياته، مؤسِّسةً لأفكاره الأولى التي نظر من خلالها إلى شكل وجوده وحياته. يفرّق خالد في حواره مع "العربي الجديد" بين شكلين من الغضب؛ الأول غضبٌ خالص، لا يحمل انقلابات أو تغييرات جذرية، ولا يرى من الحياة إلا تفرّده وطفولته، ما يؤهله ليكون استعلائي النزعة. أما الثاني فهو غضب تغيير معادلة الذات والحياة، وهذا ما نجح فيه عندما أصبح الغضب تأمُّلاً في الحياة بدلاً من الاقتصار على نقدها بالمفهوم المباشر للنقد. يقول: "كان هناك شيء وراء الغضب، وأيضاً وراء الهدوء، لم يكن أي منهما هدفاً في حد ذاته، بل صورة تُوفِّق بين رغبات مختلفة".

مدينة الإسكندرية عنصرٌ دائم الحضور في كتابات الشاعر. تدور أحداث روايته الوحيدة في فضائها، متنقلة بين وجوه من عائلة واحدة. كما يحمل كتابه الأخير "وجوه سكندرية" (2012) دليلاً آخر على تعلّقه بالشخوص التي عايشها في هذه المدينة. إسكندرية خالد يسكنها سيف وانلي ومحمود سعيد وكفافيس وسعيد العدوي ويوسف شاهين وغيرهم؛ وجوهٌ تُعرّف بالمدينة وتتعرّف بها.

"كل مقهى جلست فيه في الإسكندرية صار جزءاً من حياتي، مَعلماً بالنسبة إلي. كلّها مقاهٍ للإقامة وليست للمرور السريع. أتردّد عليها، حتى لو نسيتها لسنوات. تتشبّث ذاكرتي بأماكن لتصير جزءاً منها. ربما في حياة أخرى سنحتاج إلى هذه الذكريات. قوة الذاكرة هي التي تمنحنا الحياة، أو هي التي تُثري الحياة الأخرى. أن ترى حياتك مُصوّرة ومتخيلة، مثل جنة عدن وبابل: كلها أماكن مر عليها الخيال وخلّدها، واكتسبت طاقة ووجوداً مضاعفَين؛ يشعرك بأنك تلمس ظلاً مقدّساً وأنت تسير فيها أو تتذكرها، كالسائر داخل كتاب مقدس".

يرى صاحب "تحت شمس ذاكرة أخرى" (2012) أن الثابت الوحيد في مدينته هو ذاكرته عنها؛ تلك الذاكرة التي يمكن تحويلها إلى أشكال عديدة من العلاقات بين الشارع والشمس والرائحة والنواصي؛ وقدرتها على تلخيص مجمل هذه العلاقات وفهمها.

وبعيداً عن حديث الثورة المضادة، نسترجع مع خالد ثورة 25 يناير إذ يرى أن الملايين التي شاركت فيها "ترجمت الحس الاجتماعي بمساوئه ومميزاته أكثر من النخبة المستنيرة"؛ ويختلف مع وصفها بثورة الشباب، لأن السياق الذي ظهر فيه المصطلح يفتقر إلى الثورية والحياد، مستغرباً التمييز على أساس الفئات العمرية، فالثورة، في رأيه، تتضمن ما هو أقوى من كلامنا ونظرتنا إليها، كونها ليست مجرد حالة آنية، بل لقاء مع ضمير جمعي لا يقاس بالسن، بل بالقدرة على الاستمرار والتفاعل والتواصل. الثورة، كما يراها خالد، هي "نطفة الخلق، ولعبة خطرة تجمع متناقضات شتى، كاشفةً حاصل علاقات القوة مع الوعي".

ولا يرى الشاعر أن الثورة قيمة إيجابية بحد ذاتها، واصفاً إياها بالطريق الأصعب الذي تلجأ إليه الشعوب لإنقاذ نفسها. فبعد وصول الأمور إلى أفق مسدود، تكون الثورة هي العملية الجراحية الأخطر لبعث الحياة في الجسد الجمعي، واختيار فريد يُجبَر عليه الشعب والفرد. كما أنها اختيار جذري يصاحبه عادةً قتل للتعددية أو تأجيلها: "قدسية الثورة تكمن في ندرتها".

مقابل قدسية الثورة، ثمة، لدى خالد، قدسية في الأدب، الذي يصفه بـ"الظل الآخر للأشياء والموجودات التي يمنحها الألق في عيوننا". ويرى أن رحلة إسقاط القداسة في الأدب والفكر والثقافة كانت رحلة وهمية، لم تفلح في خلق قداسة جديدة، ولا في التحرّر من هاجسها، وإن كان لا ينفي حاجة الأدب المصري إلى "ثورة في بنية أفكاره، وفتوره، وخصوصيته، وشكلانيته، ليمكّنه من التعامل مع تلك الطاقة الجديدة التي ولّدتها الثورة".

في العدد الحادي عشر من مجلة "أمكنة"، الذي صدر أخيراً، حاول خالد أن يؤوِّل المباشرة السياسية للثورة لمساحات فنية وجمالية رديفة، لما يحتويه الاصطفاف السياسي من تحجيم وقتل للثورة. العدد الجديد الذي يحمل عنوان "مسارات الثورة -1"، يشير إلى عدم الوصول لنقطة ثبات في الثورة المصرية. ويرى أنه "من المهم في كل لحظة لنا أن نكتب تاريخنا الذي ستصبح كل دقائقه وثوانيه وساعاته وأيامه مهمة في حال غيّرنا زاوية النظر إلى فكرة الزمن؛ بمعنى أن نمتلك المرونة للتفسير أو التوقّع خلال سيولة الزمن. هذه ثورة، وكل لحظاتها مهمة، خصوصاً أثناء تحوﻻتها".

_______

أمكنة الثورة

الثورة في الإسكندرية أخذت شكل المدينة، مسيرات طولية تجوب الشوارع بدون مركز لها. كان مركزها هو الفكرة ذاتها، وهو ماكان يمثل لي حقيقة الثورة وجوهرها، المسيرات وليس التمركز أو الثبات، الذي قرأت عنه في الكتب في تواريخ الثورات، أن تغطي مساحات واسعة من الأرض. الثورة الروسية على سبيل المقال كانت تستخدم القطارات.

ولكن يبدو أن التمركز في مكان ما أيضاً هام لأي ثورة، كونه استمراراً لحشد، ويثبت وضعاً، ويحتل موقعاً، بعكس المسيرات التي لها فكرة رمزية أكثر من كونها حقيقية، لأنها عابرة وتسير فى الزمن أكثر من سيرها في المكان، كونها تنتقل باستمرار، وملكيتها للشارع تتبخر بمجرد عبورها.

وربما لهذا السبب كانت الثورة في الإسكندرية مرتبطة بزمنية المدينة وبطبقاتها، أي أنها كانت تستدعي وتستثيرهذا الرمز الزمني الذي يلخص تاريخ المدينة. أما في القاهرة، فكانت الثورة تستدعي رمزاً مكانياً تجسد في ميدان التحرير ويلخص تاريخ السلطة أو النقطة الجاذبة المرئية في جغرافية المدينة.

الثورة في كل المدن، كانت تستدعى أنماطاً كامنة في سلوك وحياة الذاكرة. الثورة أيقظت روحاً كامنة في ذاكرة أي مدينة، بالإضافة إلى أن أي مدينة كانت تتمثل فيها روح الثورة ومكوناتها ومشاهدها وعناصرها البنائية، ولكن على نطاق مصغر.

علاء...

دلالات
المساهمون