الرسم وحده هو الذي يصرخ

30 اغسطس 2014
عماد حجاج (العربي الجديد)
+ الخط -

لطالما تخيّلتُ وجه حنظلة؛ عينين صغيرتين، مقطبتين، وفماً مغلقاً. يتنهّد باستمرار، يمد يده ليحك رأسه الصغير ويعود ليعقدها خلف ظهره محافظاً على وضعيته الأبدية.

بقميصه المرقّع وقدميه الحافيتين، يتجوّل حنظلة في مجمل أعمال ناجي العلي. ينتقل حنظلة من رسم إلى آخر محافظاً على شخصية المراقب، وإن تحرّك فإنما ليرفع علم فلسطين أو ليرمي حجرأ في وجه المحتل الإسرائيلي. هو الشاهد الذي يدير ظهره للجميع، ربما لأنه يشعر بالخيانة، ربما لأنه لا يجوز أن يكون لحنظلة ملامح محددة نعرفه بها، لكي يستطيع كل منا أن يظن نفسه حنظلة.

الصبي الذي توقف عن النمو لحظة ولادته عام النكسة كان عمره 10 سنوات، وهو نفس العمر الذي هجّر فيه العلي مع عائلته في النكبة ليعيش في مخيم عين الحلوة في لبنان.

يقول العلي عن حنظلة "ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائماً في العاشرة، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء".

يعطي حنظلة لرسوم ناجي العلي إمكانية أن تكون مباشرة، يمنحها قساوة المشهد الواقعي الخام. هكذا نراه يتابع حواريات الرجل الطيّب وفاطمة وهما شخصيتان تشاركان حنظلة في صناعة رسوم ناجي التراجيكوميدية، وتعبّران في نفس الوقت عن أفكاره القومية.

ففي رسمٍ، يظهر الرجل الطيّب وهو يحمل لافتة مليئة بالرقع كتب عليها "تعيش مصر الغالية" بينما يتمتم الرجل "يسقط بطرس غالي"، وأخرى لنفس الشخصية، بالزي المصري الشعبي، يقرأ أخبار الوطن العربي وخلفه صورة لعبد الناصر وقد أدار ظهره مقلّداً حنظلة. وقد يكون رسم ناجي لصورة عبد الناصر الظهور الإيجابي الوحيد الذي يعبّر عن شخصية زعيم سياسي عربي.

اعتمد ناجي العلي في أغلب أعماله على شخصية "رجل الدهون" المترهل، لتمثيل زعماء وملوك عرب وأيضاً قادة فلسطينين. في إحدى الرسومات، تظهر هذه الشخصية حاملة عصا وتقول "كل فلسطيني متّهم حتى تثبت إدانته"، يتقدمها حنظلة مديراً ظهره لها.

وفي رسم آخر، تظهر مجموعة من المترهلين وهم يناولون الطوب لمناحيم بيغن وهو يبني جداراً يخفي مسجد الأقصى تدريجياً، وحنظلة يراقب. الرسم نفسه يصلح أن يجسد الواقع الذي تعيشه فلسطين وغزة الآن بحذافيره.

كثيرة هي الشخصيات الكاريكاتيرية التي أخذت شكل توقيع عند رساميها ولكن ما يميز حنظلة، فضلاً عن كونه أيقونة فلسطينية، تحوّله إلى رمز يعبّر عن فكرة الإنسان المضطهد والمقاوم في كل العالم. هو ممثل الفئة التي خرج ناجي العلي منها وظل يمثلها.

قبل سبع وعشرين سنة اغتيل مبتكر حنظلة في لندن. لعله كان يعلم أن مصيراً مماثلاً ينتظره: "يلي بدو يكتب لفلسطين ويلي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو ميت". ولعله تنبأ بمقتله أيضاً، هو الذي تلقى العديد من التهديدات قبيل اغتياله. إحدى الرسوم التي كان يحملها يوم الحادثة تظهر جسداً دامياً مغطى بالكوفية الفلسطينية، تخرج من فمه عبارة "لا لكاتم الصوت". حنظلة يشاهد صامتاً بطبيعة الحال، مثلنا. الرسم وحده هو الذي يصرخ.

المساهمون