في كتابه "المدينة بين التنسيق والتأصيل"، ناقش أستاذ العمارة والباحث المصري يحيى الزيني (1919 – 2018) كيف تشوّهت ذاكرة مدينة القاهرة العمرانية، حيث أبراج خرسانية في وسط البلد والزمالك والجيزة، عديمة القيمة تجافي الذوق وتخنق الهواء، وتستوعب أنشطة دخيلة لا تلائم الأحياء أو المناطق المقامة فيها.
ولفت إلى أنّ التغيير لم يقتصر على استبدال أسماء الأماكن والشوارع بأخرى، بل تعدّاه إلى محو طابع المكان، وذلك بتغيير استخداماته والعدوان على تخصصها وخصوصيتها مثلما حدث في شارع الفجالة الذي أصبح يحمل اسم كامل صدقي، وتحوّل شيئاً فشيئاً من مركز للثقافة والكتاب، حيث احتضن كبريات دور النشر، إلى مكان لتجارة الأدوات الصحية، وتوزّعت مكتباته على مناطق مختلفة من المدينة.
ضمن مبادرة نادي كتاب "وصل" للقراءة والكتابة العمرانية"، نظّم "بيت المعمار المصري" في القاهرة عند السادسة من مساء أمس السبت لقاءً لمناقشة الكتاب، أداره المعماري والأكاديمي هابي حسني مصطفى. وتتزامن الفعالية مع إزالة عدد من المقابر التاريخية القاهرية، ومنها مقابر تعود إلى أسرة محمد علي باشا، ضمن خطة لتوسيع العاصمة المصرية وإنشاء طرق جديدة.
أضاء اللقاء نقطة أساسية في مؤلَّف الزيني، تتمثّل بتآكل طابع المدينة أمام زحف تيارين مدمرين، أحدهما تيار التغريب والعولمة الاستهلاكية، والثاني تيار الانحدار إلى الفجاجة والإسفاف، موضحاً أن صوراً مختلفة بدت من آثار التيار الأول تتجسد في المجمعات السكنية الفاخرة التي لا حاجة لمجتمع نامٍ محدود الدخل إليها، بينما تتعدّد آثار التيار الثاني، ومنها حلول لغة مبتذلة في الإعلانات ولافتات المحال التجارية.
واقترح الكتاب ربط التاريخ بالجغرافيا لإخراج مشروع "خريطة القاهرة الثقافية" إلى حيّز التنفيذ، ذلك المشروع الذي جال في خاطر المهتمين بتوثيق التاريخ الحضاري، إذ لا تمثّل ذاكرة المدينة الصورة البصرية لمعالمها العمرانية وشواهدها التراثية والمادية فحسب، بل هي أعمق بكثير، وأوثق ارتباطاً بقيم وتاريخ ورموز ومعانٍ مشتركة للجماعة.
ورأى أن انتماء الإنسان إلى المكان يتجذر من خلال حركة الزمان، من طريق ما يتشكل لديه من رموز ومعانٍ، وما يتراكم في وجدانه من عواطف وأحاسيس، وما تسجله ذاكرته من مواقف وأحداث وصور تجعل جميعها من المكان زماناً متجمداً.
ويشار إلى أن الكتاب يضمّ ستّة فصول، هي: التراث العمراني ومعنى التاريخ، البيئة العمرانية وجودة الحياة، وفي التنسيق الحضري والقيم الحضارية، والفن والعمارة وحدود المسؤوليات، والحدائق التراثية والتوازن البيئي، البحث عن الجوهر الضائع.. الطابع.