وهبي إسماعيل حقي.. وجهٌ في الثقافتين الألبانية والعربية

10 اغسطس 2023
وهبي إسماعيل حقي
+ الخط -

مع أنه لدينا إشارات إلى صلات مبكرة بينهما، إلّا أن الدولة العثمانية جمعت الألبان والعرب لأربعة قرون على الأقل تحت مظلة واحدة؛ سياسية وثقافية أيضاً، إذ إنّ انتشار الإسلام بين الألبان جعلهم يتوجهون نحو الجنوب للحج وطلب العلم وأصبحت اللغة العربية إحدى لغات التأليف الجديدة (بالإضافة إلى العثمانية والفارسية)، والتي أصبحت تُدرَّس في المدارس وتستخدمها النخبة المثقفة الألبانية الجديدة في التأليف، سواء في الأدب أو في علوم اللغة أو الدين.

ومع أهمية هذه المثاقفة التي انعكست على الأدب الألباني الجديد، الذي أصبح يُكتب بالحروف العربية ويحمل مؤثرات عربية واضحة، سواء في ما يتعلق بالوزن أو الموضوعات واستخدام المفردات العربية، إلا أن القرن العشرين حمل مثاقفة مختلفة مع انفراط الدولة العثمانية وبروز الدول المستقلّة (ألبانيا في 1912، وسورية في 1920، ومصر في 1923 وغيرها)؛ فبالمقارنة مع المثاقفة الأُولى التي كانت تفتقد لدور الطباعة في نشر المؤلفات، نجد أن المثاقفة الجديدة ارتبطت بثمار المطابع وانتشار القراءة بفضل الصحف والمجلات والكتب في بيئة ثقافية مختلفة ارتبطت بالأدب الحديث هنا وهناك، وبالتحديد القصة والرواية.

وفي هذا السياق، لعب الحضور الألباني الجديد في مصر وسورية دوره، في وقت أصبحت القاهرة ودمشق مركزين ثقافيين مهمين في القرن العشرين؛ فقد كانت القاهرة مركزاً لجالية ألبانية مهمّة في بُعدها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، كما كان الأمر كذلك في دمشق، حيث وُجدت هناك جالية أصغر، ولكن أنشط في هذه المثاقفة الجديدة، التي كانت تشمل مشاركة الجيل الألباني الجديد المتعرّب، سواء في نشر إبداعاته في القصة والرواية في القاهرة ودمشق، أو في ترجمة الأدب الألباني الحديث إلى الألبانية، ليتعرف العرب على تجارب أوروبية جديدة في المجال الأدبي.

في هذا الإطار، يبزر إسهام وهبي إسماعيل حقي (1919 - 2008) في القرن العشرين، وهو الذي عاش وأسهم في هذه المثاقفة متنقلاً ما بين ألبانيا ومصر والولايات المتحدة، وجامعاً ما بين الجانب الأدبي والجانب الديني، كخرّيج للأزهر وإمام للجالية الألبانية في الولايات المتحدة الأميركية.

إرنست كوليتشي
إرنست كوليتشي؛ رائد القصّة القصيرة الألبانية

وُلد وهبي إسماعيل حقي Vehbi Ismail Haki في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1919 في مدينة شكودرا Shkodra بشمال ألبانيا، والتي تُعتبر من أقدم المدن الألبانية التي لا تزال مستمرّة من ألفي عام ونيف. كان والدُه، إسماعيل حقي، إماماً معروفاً في المدينة ومثقّفاً يملك مكتبة غنية بآلاف الكتب في اللغات العربية والعثمانية والفارسية وينظم الشعر باللغة الألبانية بالحروف العربية، استمراراً للتراث الثقافي الذي تَشكّل في البلاد خلال عدة قرون، وأصبح في 1926 مفتياً على محافظة كرويا Kruja، فانتقل ابنُه معه ليكمل هناك دراسته الابتدائية. ورغبةً منه في متابعة طريق والده في طلب العلم، اختار وهبي أن يتابع تحصيله في "المدرسة العليا" في العاصمة تيرانا، التي كانت تجمع بين العلوم اللغوية (ومنها العربية) والدينية والمواد الأُخرى في المدارس الحكومية، وقد تخرّج منها في عام 1937.

ويبدو أن نشأة الفتى في هذا البيت العامر بالمكتبة الغنية نمّى لديه الاهتمام بالقراءة أوّلاً ثم بالكتابة، ليجمع ما بين الأدب وعلوم الدين على خطى والده؛ فعلى صعيد القراءة، يعترف الإمام بأنّ اهتمامه بقراءة الأدب أثّر على تحصيله في المدرسة، حيث كان يتابع الأدب المحلّي، وخاصّة الإنتاج القصصي للكاتب الألباني المعروف إرنست كوليتشي E. Koliqi، الذي يُعتبر رائد القصّة في الأدب الألباني. وبعد تخرّجه من "المدرسة العليا"، أُوفد إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، حيث حظي - باعتباره ابن المفتي إسماعيل حقي - بلقاء شيخ الأزهر مصطفى المراغي، وهو الذي منحه طاقة كبيرة للدراسة ومتابعة الاهتمام بالأدب في وقت كانت القاهرة مركز إشعاع أدبي، إلى أن تخرّج في صيف 1945.


مصر الوطن الثاني

جاء تخرُّجه في وقت حرج بعد أن اندلعت في ألبانيا حرب أهلية بين اليمين واليسار، انتهت إلى وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة، ولذلك وردته نصيحة من والده المفتي بالبقاء في مصر. اقتنع وهبي إسماعيل، كما يقول في مذكراته لاحقاً، أن يبقى في مصر وأن يجعل منها "وطنه الثاني" لفترة من الوقت، لأنه كان يعتقد أن "الشيوعية لن تبقى طويلاً في ألبانيا".

ومع قراره بأن يجعل مصر "وطنه الثاني"، كان لا بد له، كما قال، أن "يتدبّر معيشته"، فكان أن توجَّه إلى النشر في كبريات المجلّات المصرية؛ مثل: "الثقافة" و"الرسالة" و"الهلال"، لكي ينشر فيها ما كان يكتبه من قصص بالعربية أو ما يترجمه من قصص ألبانية إلى العربية، للتعريف بالأدب المجهول كما سمّاه. ويبدو من خلال استقصاء ما نشره وهبي إسماعيل في تلك المجلات أن اهتمامه المبكر بالأدب قد برز من جديد قبل تخرّجه من الأزهر في 1945.

فقد نشر أول قصة "من الأدب الألباني" بعنوان "وفاء" للكاتب كامل غُرانياك Q. Guranjaku في مجلة "الثقافة" في نهاية 1944، بينما نَشر خلال 1945 ترجمة قصة "بائع الأعلام" لـ إرنست كوليتشي، وترجمة قصتين أُخريين لغُرانياك عن الألبانية في مجلة "الثقافة، مع التوضيح بأنها "من مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان "المهد الذهبي وقصص أُخرى"، وهي التي نُشرت بالفعل في عام 1948.

المهد الذهبي
مجموعة "المهد الذهبي وقصص أُخرى"، المنشورة في القاهرة عام 1948

أما الجديد في ذلك العام، فهو نشره لأول قصة له بعنوان "الزائر الليلي" في مجلة "الثقافة"، والتي ستكون نواة لأوّل مجموعة قصصية سينشرها لاحقاً في القاهرة وتضمّنت قصة له بعنوان "في ميدان الجهاد" تدور حول مشاركة الألبان والبشناق في حرب عام 1948 في فلسطين.

ويلاحظ المتتبّع لهذه السنوات التي عاشها وهبي إسماعيل في مصر باعتبارها "الوطن الثاني" (1945 - 1949) مدى انخراطه في الحياة الثقافية العربية قراءة وكتابة خلال تلك السنوات، وإسهامه في أهم المجلات الثقافية العربية ("الثقافة" و"الرسالة" و"الهلال") التي كان يكتب فيها كبار الكتّاب العرب في القرن العشرين؛ مثل طه حسين وعباس محمود العقاد وعبد القادر المازني وأحمد أمين وأحمد زكي وميخائيل نعيمة ومحمود تيمور ويوسف السباعي وبنت الشاطئ وغيرهم.

وفي هذه المناسبات أصبح يشار إليه بـ "الأستاذ وهبي إسماعيل" بينما بقي يشير إلى نفسه في نهاية كل قصة بـ"عضو البعثة الألبانية في الأزهر". ويلاحَظ في هذه القصص وغيرها، والتي ستُنشر لاحقاً في مجموعتين قصصيتين، مدى تشرّب وهبي إسماعيل للغة العربية وثقافتها، حتى أصبح قادراً على إبداع هذه القصص كتابة وترجمة بلغة عربية لا تميّزه عن غيره من كتّاب مصر الذين كانت تُنشَر كتاباتهم في المجلات المصرية.

تكشف نصوصه القصصية عن مدى تشرّبه العربية وثقافتها

عبّرت قصص وهبي إسماعيل المنشورة عن خلطة ألبانية - عربية إسلامية؛ وكان ذلك نتيجة طلاعه المبكر على الأدب الألباني الحديث الذي برز بعد الحكم العثماني، واهتمامه بقراءة المجموعات الأولى لرائد القصّة الألبانية الحديثة إرنست كويتشي، مثل "ظل الجبال" (1929) و"تاجر الأعلام"(1935) وغيرهما، والتي تَرجم بعض قصصها إلى العربية، ليبدأ بذلك تعريف العرب على أدب جديد يختلط فيه الشرق والغرب.

ومن ناحية أُخرى، أسهمت تطوّرات ما بعد الحرب العالمية الثانية في أن تصبح مصر مركزاً للملك الألباني أحمد زوغو، بعد إلغاء الحكم الشيوعي للملكية وإعلان الجمهورية في مطلع 1946، حيث تدفقت إلى مصر نخبة سياسية ومثقفة معارضة للنظام الشيوعي. وضمن هذه الشخصيات المدنية المثقفة التي جاءت مصر وأقامت فيها فترة من الوقت وزيرُ الثقافة السابق إرنست كوليتشي، الذي حظي باهتمام خاص من قبل وهبي إسماعيل، لكونه ابن مدينته ومعلّمه الروحي الذي قرأ مجموعاته الأُولى في شكودرا وترجم بعض قصصه إلى العربية خلال 1945-1946، ولذلك حرص على مرافقته لزيارة كبار الكتّاب في مصر آنذاك، مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور. وقد أثمرت هذه اللقاءات في ما بعد على توجّه وهبي إسماعيل لترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الألبانية، ليسهم بذلك في تعريف الألبانيين بهذه الخبرة الأدبية الجديدة.


ديترويت مركزاً جديداً للمثاقفة

في ربيع 1949، انتقل وهبي إسماعيل إلى ولاية ميشيغن في الولايات المتحدة ليكون إماماً للجالية الألبانية في ديترويت، حيث أسّس مركزاً ثقافياً ودار نشر تُصدر المؤلفات المختلفة بالألبانية والإنكليزية، والتي أصبحت الأساس في توفير ثقافة منفتحة للألبان، مسلمين ومسيحيين، في الوقت الذي كان الألبان، سواء في ألبانيا أو في يوغسلافيا، يفتقدون هذه الحرية لنشر مثل هذه الكتب.

فقد طلب منه إرنست كوليتشي، الذي استقر في روما ليدير "معهد الدراسات الألبانية" ويُصدر عام 1957 مجلة أدبية باسم "شيزات" Shejzat، أن يترجم له بعض مؤلفات توفيق الحكيم. وقد بدأ وهبي إسماعيل بترجمة مسرحية "أهل الكهف"، التي نشرها مسلسلة في مجلة "شيزات"، ثم صدرت في كتاب عام 1967. ومع الانفتاح السياسي الجديد في يوغسلافيا بعد 1966، صدرت هذه المسرحية بالألبانية عام 1986 مع مقدمة لمحمد موفاكو، ثم في طبعة ثالثة في ديترويت عام 1988. وبعد الصدى الذي تركته المسرحية، تابع وهبي إسماعيل عمله وترجم مسرحية "محمد الرسول البشر" لتوفيق الحكيم، والتي صدرت في ديترويت عام 1987.

أهل الكهف
غلاف مسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم بترجمة وهبي إسماعيل حقي، 1967

ومن ناحية أُخرى، تابَع وهبي إسماعيل تجربته القصصية التي بدأها في القاهرة باللغة العربية، ولكن إلى اللغة الألبانية هذه المرة، لينقل للقرّاء الألبان من خلالها موضوعات من التاريخ العربي الإسلامي. ففي 1985، أصدر باكورة إنتاجه الأدبي بالألبانية، وهي مجموعة قصصية حملت عنوان "باقة قصص من تاريخ الإسلام"، بينما تحوّل بعدها إلى الروايات التاريخية، ليُصدر عام 1987 "عمَر يعتنق الإسلام" و"بلال مؤذّن الرسول" في 1988، و"سلمان الفارسي الباحث عن الحقيقة" في 1989.

وبعد هذه التجربة الغنية في الترجمة من العربية إلى الألبانية وبالعكس، قرّر وهبي إسماعيل أخيراً خوض تحدي ترجمة القرآن الكريم إلى الألبانية. وكان علماء المسلمين في ألبانيا، كغيرهم في العالم الإسلامي، يرفضون من حيث المبدأ ترجمة القرآن، على الرغم من مرور قرون على انتشار الإسلام بين الألبان، ويرون وجوب تعلّمه وقراءته بالعربية من أجل الصلاة اليومية على الأقل. ولكن مع إعلان استقلال ألبانيا عام 1912، نتيجة لجهود الحركة القومية الألبانية التي جمعت المسلمين والمسيحيين معاً والتوجه لثقافة قومية، بادر أحد رجال الحركة القومية (إيلو تشافزيزي I. Qafëzezi) إلى ترجمة القرآن إلى الألبانية من الإنكليزية ونشر الجزء الأول منه في 1921 باعتباره المصدر الثقافي لغالبية الألبان (المسلمين) الذي يجب أن يكون معروفاً للجميع.

وهكذا، بدأ منذ العدد الثالث لمجلة "الحياة الألبانية المسلمة" عام 1950 في نشر بعض سور القرآن بترجمة لاقت الاستحسان ("الفاتحة" و"البقرة" و"الحجرات" و"الفرقان" وغيرها)، وهو ما جعل وهبي إسماعيل يقرّر الاستمرار في ترجمة القرآن كاملاً. وقد انتشر هذا الخبر بعد اللقاء الذي أجرته مجلة "فرانس إسلام" France Islam معه عام 1968 ولقى صدى طيّباً لدى الألبان في يوغسلافيا.

ولكن وهبي إسماعيل زار يوغسلافيا في عام 1974 والتقى بالمثقفين الألبانيين المعنيين بذلك، ليحمل لهم مفاجأة كبيرة. فقد كان قد انتهى من رقن الترجمة على الآلة الكاتبة وانطلق في جولة ببعض البلدان العربية لتأمين تمويل لطبع الترجمة، ولكن الحقيبة التي وضع فيها الترجمة ضاعت، وبقي ينتظر شهوراً آملاً أن تعود الحقيبة إليه.

وفي زيارته الأخيرة إلى كوسوفو في عام 1979، التقى فتحي مهديو F .Mehdiu الذي كان على تواصُل معه منذ سنوات حول ترجمة القرآن، وأخبره أنه لم يعد قادراً، بسبب العمر، على إنجاز ترجمة جديدة، وهو ما سمح لمهديو بأن يقوم بهذا العمل الذي كان يتوق إليه، وأن يُصدر ترجمته للقرآن إلى الألبانية في بريشتينا عام 1985. وقد سُرّ وهبي إسماعيل لهذه الترجمة وروّج لها في الولايات المتحدة وكندا، وعمل على تيسير التعريف بها في الندوة الدولية الأُولى التي عُقدت حول ترجمات القرآن الكريم في إسطنبول عام 1986.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

 
المساهمون