وقفة مع نبيل منصر

25 يوليو 2022
نبيل منصر (العربي الجديد)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "علينا أن نقاوِم لأنسنة عالَم الأطفال... ربما هذه فرصتنا الوحيدة لإنقاذ مُستقبل الخيال على الأرض"، يقول الشاعر المغربي لـ"العربي الجديد.



■ ما الذي يشغلُك الآن؟

- تشغلني أكثر مفارقات العالَم والثقافة. ثمّة جدلٌ غير سعيد بينهما. فلا العالَم ينتصر للحق، ولا الثقافة تقف جذرية، متسائلة وقلقة على وديعة الوجود، التي لا يَتهدَّدها، اليوم، النسيانُ فحسب، وفق التأويل الهايدغري، بل الدمار. ما من مَساحة، ولو ضيِّقة، مُصانة للاختيار وحرية قرار الأفراد والدول. ثمّة، شِبه قَدرية، محكومة برهانات جيوسياسية مُتوحِّشة، تُشرِّد الشعوب وتَحكُم على الحياة والحضارة بالخراب الهائل. الثقافة من جانِبها، تتفرَّج، وقد اختُزلتْ في مشروع صغير لـ المثقّف "العضوي" الجديد: كيف يَتَرسَّخُ أكثر، ويَنتزعُ مَوارد مُتنوّعة مِن الثراء الرمزي والمادي العام، في تنكُّر تام لأعباء الثقافة نفسها، ولقيم النقد ومشاريعه الفكرية والمُجتمعية.


■ ما هو آخر عمل صدر لك، وما هو عملُك المقبل؟

- لا بدّ من الإشارة أوّلاً إلى أنني مُتقتِّرٌ في نَشر مُؤلّفاتي، في الشعر والنقد والتأمّل الفكري والأدبي. فأنا أنشرُ أقلّ مِما أكتب. آخر عمل صدر لي في الشعر هو ديوان "المتحف الكوني" (2018)، لكنْ بعده، صدرتْ طبعة جديدة لِعملي الشعري الأسبق "كتاب الأعمى" (2011)، في إصدار مُزدوج اللغة (2020). وقد كانت الصيغة الفرنسية للكِتاب من توقيع المُترجم المغربي كمال التومي. أمّا عملي المقبل، في النقد، فسيكون كتاب "قيثارة الليلة الثلاثية"، وهو دراسة تجمع بين تحليل وتأمّل النص الشعري والأدبي، مِن مكان يتقاطع فيه الفكرُ والنقد. أمّا في مجال الشعر، فسيظهر لي كتاب شعري تأخّر صدوره نسبياً، وهو ديوان "مِنَ الأبد إلى الأزل". وقدُ سُررتُ بنشر بعض قصائده، مثل قصيدة "الطوفان"، في "العربي الجديد".


■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟

- يُمكنُ القول إنّني على قلق دائم بهذا الخصوص. فالتقييم الإيجابي له مُضاعفات مُتضاربة على الذات الكاتبة. وهو غالباً ما يكون مدعاة للدعة والاِسترخاء، إن لَم يُحَوِّل صاحبه إلى داعية ومُبشِّر بجماليات يَعرفُها ويَكتُبُها بكلّ ثقة وجدارة. والحال أن الشعر، والأدب عموماً، أبعد ما يكون عن ذلك. هو ينمو بِبُطء في نُسكية شبه صوفية، مُخترَقة، على الدوام، ببذرة صامِتة من الحَيرة والقلق واللايقين. ما من مرايا داخلية تجعلُنا نرى صورتَنا مُتعاظِمة، وإذا حدثَ ذلك، فهي لن تكون أكثر مِن وَهْم زَيَّنَه لنا طول الاسترخاء على الأريكة. كِتابتي مُتطلِّبة، وتتقدَّم بِبطء، وهي مُتواضِعة، ليس عن حُلية، ولكن عن إحساس بالغ بأنّ سُلّم الشعر والأدب صعب، يحتاج ركوبه إلى أكثر مِن حياة مُخلِصة، ومُتخلِّصة مِن الزوائد والشناعات.

توسيع الموارد الشخصية من المعرفة أساس لتجربة الكتابة

■ لو قُيِّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنتَ ستختار؟

- لِكل بِداية ألقُها وتَعثُّراتُها. فما من مسار مثالي. ولعلَّ البداية "القوية" هي التي تَتجدَّدُ باستمرار في مَسار الحياة والكتابة. البداية إذاً تكون، في تقديري، مَشدودة لأشواقِها ووعودها الاستكشافية، التي تجعل منها، في آن، بداية واستئنافاً لما نرغب فيه، ونَحدسه، دون أن نعرفه تماماً. المجهول يُغرينا بالانطلاق، لكنَّه يَكبُر في الطريق، ويَتّخذ وُجوهاً مُتعدِّدة. وهو مِثلما يرتبط بالأسئلة الكبرى في الوجود والكتابة، مثلما يكون قريباً من الخطوة اليومية، التي تُنبِّهنا إلى ثرائها الهائل بَعضُ التجارب الشعرية والفكرية البصيرة. المسار الذي أحرص عليه باستمرار هو توسيع الموارد الشخصية من المعرفة الشعرية والفلسفية والأسطورية والأنثروبولوجية والبصرية، على نحو يَجعل منها أساساً صامتاً لارتياد مجهول تجربة الكتابة.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريدُه في العالَم؟

- قوى العالَم تُهمِّش الفِعل الحُر، وتدفعُ بالحُلم إلى التقلُّص والانكماش. الحالِمون الكبار، إمّا كفُّوا عن مُخاطبتِنا مِن وراء أسوار مَدافِنهم، أو أن صَرختهم تحوِّم مُدوّمَة في السماء، دون أن يَرفع المُعاصِرون نحوها وجوههم وأيديهم. اليأس في هذه الحالة، ليس تَرفاً فكرياً، بل شرط وجود وإقامة في عالَم مُهدَّد. المال والمصالح والتقنية روّضتِ الإنسانَ، ووضعتْ مُستقبلَه وأفعالَه في مسار مُرعِب ومضبوط. هل يَحق لنا، ومِن واجبنا، أن ننتج، في هذا السياق المُقيِّد للإرادة، يوتوبيات جديدة؟ لا أملك تَرف الإجابة، لكنّني أشدِّد، مع ذلك (لِيُغفَر لي هذا الحلم الأخير)، على حماية الأطفال مِن شراسة الجحيم، الذي تُهيئه لهم إرادة التقنية المُتغوِّلة. علينا أن نقاوِم لأنسنة عالَم الأطفال بإعادة اكتشاف جلال الطبيعة واللعب والموسيقى والحكاية والرسم والشِّعر. ربما هذه فرصتنا الوحيدة لإنقاذ مُستقبل الخيال على الأرض.


■ شخصية من الماضي تود لقاءَها، ولماذا هي بالذات؟

- أودُّ لو ألتقي بأبي العلاء المَعرّي. تُدهِشني ثقافته اللُّغوية والشِّعرية المَوسوعية، كما أجدُ في فكره ونِظام حياته عَزاءً يُخفِّف من وطأة الزمن الثقافي المُنتصِر الآن، أو عَبر التاريخ، لِقيم الجشع والأنانيات المُفرطة، التي تُسانِد الإرادات المُنتصِرة، مثلما تجدُ في برامِجها سَنَداً لها. أبو العلاء المعرّي يعلو بفكره ونمط حياته عن كل ذلك. إنه نموذج مضاد تماماً، كما أنَّ لعبته الأدبية تتجاوزُ أطُرَ الشعرية العربية البيانية، وتنسجُ من ذلك الماضي لِأخوات شعرية وفلسفية حداثية، نجد امتداداً لها في عمل دانتي أليغيري وفكر إميل سيوران. إنّ شيخ المعرّة لم يكن فقط وراء زُهد نباتي مُؤسَّس على خلفية فلسفية وجودية سابقة لعصرها، بل أيضاً مؤسِّساً لِأدب الرحلة الأخروية وللمجاز الوجودي المُشبَع بفلسفة السأم وبما يفيض عن "مثالب الولادة".

ثمّة تنكُّر تام لأعباء الثقافة ولقيم النقد ومشاريعه

■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- ثمّة فعلاً صداقات بقيمة كُتب كبيرة، وكتبٌ بقيمة صداقات هائلة. كتب كثيرة أعود إليها باستمرار، من بينها "موسوعة تاريخ الأديان" لفراس سواح، و"العنف والمقدّس" لرينيه جيرار، فضلاً عن دراسات باشلار عن الخيال الشعري. أمّا الصديق الذي يخطر ببالي فهو خالد بلقاسم، الذي يَرسم، بصبر وتواضع، أحد أجمل الأقدار لِلقارئ والقراءة في الأدب العربي الحديث. هناك أصدقاء آخرون، أشعر تجاهم بكثير مِن المحبّة والعرفان، أكتفي الآن بتوجيه التحية إليهم.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أقرأ "تمارين في الإعجاب" لـ إميل سيوران (ترجمة آدم فتحي). كتاب فريد في البيبليوغرافيا الفكرية للفيلسوف الروماني، ينفرد عن باقي أعماله بتخصيص تحليل نقدي (تحية فكرية) لبعض الأعلام/ الأعمال الثقافية التي شكّلت لحظة ضوء في مساره أو مقتربه الفكري والأدبي والشعري الخاص. عبر هذا الاِستدعاء تلمعُ قيمٌ فكرية لِسيوران نفسه، مثلما تتبلوَرُ زاوية خاصة في الرؤية لِبعض قاماتِ الغرب الثقافية. كِتاب ممتع وبالغ السخاء حتى فيما يكشف عنه أحياناً مِن سُخرية وسأم.


■  ماذا تسمَع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نُشاركك سماعَها؟

- أستمع كثيراً لأعمال فيروز، خاصة من خلال ألحان زياد الرحباني، كما أستمتع ببعض أعمال سيّد درويش بأداء الفنان المصري محمد محسن.

وفي هذا السياق، أقترح عليكم، بفرح، مشاركتي سماع أغنية "البحر بيضحك ليه" لفنّان الشعب، بأداء هذا الفنان الموهوب.



بطاقة

شاعر وناقد من المغرب من مواليد الدار البيضاء عام 1965، حاصل على دكتوراه في الأدب العربي الحديث من "جامعة محمد الخامس" في الرباط عام 2004. من إصداراته الشعرية: "غمغمات قاطفي الموت" (1997)، و"أعمال المجهول" (2007)، و"مدينة نائمة" (2010)، و"أغنية طائر التم" (2016)، و"المتحف الكوني" (2018). وفي النقد: "الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة" (2007) و"شعرية البجعة" (2011). تُرجمت له أعمال ونصوص شعرية إلى الفرنسية والإسبانية.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون