تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أتمنّى نهاية هذه الليبرالية الوحشية التي رأينا ضحاياها في بلدان عديدة بما فيها البلدان الغنية"، يقول الباحث التونسي لـ "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- يشغلني أمران، أوّلهما الوضع الصحّي في البلاد وفي العالم، ومِن خلال مهامي رئيساً لـ"المجمع التونسي للآداب والفنون والعلوم - بيت الحكمة"، فأنا أتابع أوّلاً بأول مع زملائي آخر المستجدات في ما يخص هذا الوباء ضمن ما يُنشَر في المجلّات العلمية عالمياً. كما يشغلني الوضع السياسي في تونس، بالإضافة إلى المشاغل الفكرية والاهتمامات اليومية والمهنية. سياسياً، الوضع مؤسف؛ حيث تبدو علامات ضعف الدولة ظاهرة، وهي ليست جديدة ولكنها تفاقمت في ما أرى، مثل عجز الدولة عن تطبيق القانون، وهو أمرٌ خطير لأن الحياة لا تستقيم إلا بالحرية والنظام. يحزنني أن تتمرّد بعض الفئات على القانون لأن لها وزناً نقابياً أو جهوياً أو مَصلحياً أو كانت من الفئات المحظوظة التي ترغب في المحافظة على امتيازاتها المشروعة وغير المشروعة. هذا الواقع يمنع من القيام بإصلاحات ضرورية في كل الميادين.
■ ما هو آخر عمل صدر لك؟ وما هو عملك القادم؟
- منذ انتخابي على رأس "بيت الحكمة" في 2015 لم يعُد لي لا الوقت ولا الطاقة لكي أكتب كما كنت أكتب من قبل. كان آخر عمل صدر لي في 2016 وهو عمل جماعي أشرفتُ عليه بعنوان "المصحف وقراءاته" في خمسة أجزاء ضخمة. ومنذ ذلك التاريخ، كتبت مقالات ومقدّمات لكتب نشرها المجمع مثل الأعمال الكاملة لأحمد الدرعي، لكن لم أُصدر كتاباً في هذه الفترة. على أنَّ إصدارات "بيت الحكمة" لم تتوقّف حتى خلال فترة الحجر الصحي؛ حيث كيّفنا العمل مع هذه الظروف الخاصة، وقد جهّزنا المجمع بالوثائق السمعية البصرية التي تسمح لنا بنشر منجزات "بيت الحكمة" على نطاق واسع في موقع إلكتروني وعلى قناة في يوتيوب. أمّا بخصوص عملي القادم، فعندي مشروع كتاب بدأت بتحضير فصوله ولكني عادةً لا أتحدّث عن مشاريع لم تُنجَز بعد.
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
- نعم ولا. نعم بمعنى أنني لا أتنكّر للأفكار التي عبّرتُ عنها، ولستُ راضياً باعتبار أنني خسرت جزءاً كبيراً من طاقتي للتدريس والتأطير، ولم تُتَح لي الفرص الكافية لكي أكتب أكثر مما كتبتُ. كان بودّي أن أكتب أكثر. المهمات التدريسية والتأطيرية تأخذ الكثير من الوقت، خصوصاً مع ما طرحته على نفسي من تأسيس لبرامج الفكر الديني في الجامعة التونسية. فمن قبل، لم يكن الفكر الديني الإسلامي - وغير الإسلامي - يُدرَّس إلّا ضمن التعليم التقليدي في "الزيتونة"، أمّا أنا فقد أدخلت هذا التعليم إلى كليات الآداب، فكان لا بد من أن أضع هذا الاختصاص على السكّة حتى لا ينحدر إلى أيديولوجيا، وحتى لا يكون تعليماً دوغمائياً يتبنّى تياراً ضد بقية التيارات.
شغلني ما خلف الظاهر في كتابات الأدباء والشعراء والفلاسفة
■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- لا أظن أنني سأختار مساراً غير الذي اخترته لأنه جاء نتيجة أسباب ذاتية وموضوعية. اخترتُ التدريس الجامعي بعد أن درّست في التعليم الثانوي ولاحظت أن الأخير محكوم بنوع من الروتين، وأنا أسعى دائماً إلى التجدّد، كما أنني فكّرت بين التخصص في البحث العلمي وبين الاهتمام بالسينما؛ ففي فترة ما أنشأتُ نادي سينما في مدينة قفصة وشاركت في ملتقيات تدريبية لتنشيط نوادي السينما وكنت أتابع ما يتعلّق بالسينما، لكن اخترتُ أن أدخل للجامعة وأن أهتم بالبحث، وقد لاحظتُ أنَّ أي نتاج في الأدب وفي الاجتماع وفي السياسة تقف وراءه خلفية دينية غير واضحة. كأني وقتها أردت أن أبحث عمّا هو خلف هذا الظاهر في كتابات الأدباء والروائيين والشعراء والفلاسفة. كان هذا المبحث في نهاية الأمر نوعاً من اكتشاف المجهول لأن الرهانات الحقيقية في العادة غير مصرَّح بها وإنما نجدها كامنة وراء أغشية وطبقات من الإشارات ومن المجازات ومن اللغات، وعندما يكتشف الإنسان هذه الرهانات سيشعر بمتعة كمن يكتشف ظاهرة فيزيائية.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- ما كل ما يتمنّاه المرء يدركه. أتمنّى نهاية هذه الليبرالية الوحشية التي رأينا ضحاياها في بلدان عديدة بما فيها البلدان الغنية. بلدان غنية جداً وفيها مواطنون ينامون في الشارع ولا يجدون ما يقتاتون به. لديّ اهتمام بالبدائل الممكنة لليبرالية الوحشية. كان الناس يأملون أن يكون البديل الذي يعوّض الليبرالية هو الشيوعية، ولكن تبيّن أنها تؤدي إلى نوع جديد من الاستبداد. أعتقد أن التجارب الديمقراطية الاجتماعية التي حصلت في أوروبا الشمالية هي إلى الآن أنجح التجارب في تاريخنا المعاصر على مستوى تنظيم المجتمعات. أتطلّع إلى شيء من ذلك، ولكنّي أعرف أن تجسيد هذه الأماني صعب لأن مصالحَ قويةً تحول دون كل بديل.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أفكّر في الجاحظ؛ رجل موسوعي وله أمل في أن يكون المستقبل أحسن من الحاضر وأحسن من الماضي. تستهويني شخصيته. لو افترضتُ لقاءً معه سأسأله عن علاقته بالسلطة لأنه عاش زمن المأمون وزمن المتوكّل، وهذا الأخير قام بانقلاب على سياسة المأمون. ولا بد أن أسأله ما الذي أثّر في خياراته الفكرية عندما انتقلت السياسة الرسمية من دعم الاعتزال إلى العكس.
لم تُتَح لي الفرص الكافية لكي أكتب أكثر مما كتبتُ
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- أصدقاء عديدون يخطرون ببالي. صداقات من تونس ومن خارجها. لا أذكر صديقاً بعينه كما لا أعود إلى كتاب واحد، فأنا أعود إلى عدة كتب، بعضها يساعدني في تجاوز أوقات الإرهاق مثل كتاب "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر؛ حيث أقرأ منه بضع صفحات ثم أعيده إلى مكانه.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- من عادتي أنني لا أقرأ كتاباً واحداً. دائماً على مكتبي على الأقل ستة أو سبعة كتب. مثلاً، أهم ما أقرأ الآن العدد الأخير من المجلة الفكرية الفرنسية "Débat" والتي توقف صدورها في سبتمبر الماضي بعد أربعين عاماً من إطلاقها، والعدد الأخير فيه تحاليل هامة ضمن نوع من التفكير الشامل في ما حدث خلال أربعة عقود ويتساءل عما ينتظرنا في المستقبل.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- عندما أعمل في بيتي أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية. أمّا مقترحي فهو أغنية "وحقّك أنت المنى والطلب" بصوت عزيزة جلال، رغم أن الأغنية معروفة بأداء ملحّنها أبو العلا محمد وخصوصاً بأداء أم كلثوم.
بطاقة
باحث وأكاديمي تونسي متخصّص في الفكر والحضارة الإسلاميين، من مواليد صفاقس سنة 1942. يرأس "المجتمع التونسي للآداب والفنون والعلوم" منذ 2015. من مؤلفاته: "مقامع الصلبان" (1975)، و"الفكر الإسلامي في الرد على النصارى" (1986)، و"الإسلام والحداثة" (1991)، و"الإسلام بين الرسالة والتاريخ" (2001). أصدر مقالاته ومحاضراته في عمل بعنوان "لبنات" صدر في ثلاثة أجزاء بين 2011 و2013.
كما أشرف على كتب جماعية من بينها: "الظواهر الحضرية في تونس القرن العشرين" (1996)، و"المصحف وقراءاته" (2016). وأشرف على سلاسل كتب مثل "الإسلام واحداً ومتعدّداً" في دار الطليعة (بيروت)، و"معالم الحداثة" في دار الجنوب (تونس).