وقفة مع ساري حنفي

25 ابريل 2023
ساري حنفي (تـ: عزام طعمة)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة عن انشغالاتها وجديد إنتاجها وما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "لا نكتب لوصف الواقع فقط، بل للانتصار لخيارات المدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية"، يقول عالِم الاجتماع الفلسطيني في حديثه إلى "العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- كوني رئيساً لـ"الجمعية الدولية لـ علم الاجتماع" منذ عام 2018، لقد استفدتُ جداً من النقاشات الأكاديمية الدائرة في بُقع مختلفة من العالم. فكثير من إشكالات المجتمع العربي، لا يمكن فهمها دون الأخذ بالاعتبار التقارُب الكوني. ما يشغلني، هذه الأيام، هو الاستقطاب الحادّ والهرمي للمجتمع، وكيف تستشرس النيوليبرالية والرأسمالية الاستهلاكية التي سلّعت كلّ شيء بما في ذلك المشاعر، دون أن تستطيع جلُّ العلوم الاجتماعية في العالَم العربي والعالَم أجمع مقاومة ذلك. هناك مجموعة كبيرة من الباحثين الاجتماعيّين، الذين سأسمهم بـ"ليبراليين كلاسيكيون"، لكنهم سياسياً غير ليبراليين - باختصار، "ليبراليون مكتفون بذاتهم" - أهملوا موضوعات العدالة الاجتماعية، واهتمّوا بسياسات الهوية. 

أقترح معالجة ضعف نفوذ هذه العلوم بالدعوة إلى مقاربة جديدة للتحوّل إلى ما أسمّيه "علوماً اجتماعية حوارية". هذا الاتجاه مبني على نسخة محسّنة ومعدّلة من الليبرالية السياسية الرولزية (نسبة إلى الفيلسوف الأميركي جون رولز)، أي العمل على الأخذ بالاعتبار مسألة التّعددية (المفاهيم المختلفة للخير أو الحياة الطيبة) داخل مجتمعنا، تعدّدية تؤلّف بين كلّ ضروب التنوّع، ولكنْ أيضاً تُحافظ على التماسُك الاجتماعي (مفهوم موحّد للعدالة) ضمن المجتمع الواحد.


■ ما آخر عمل صدر لك، وما عملك القادم؟

- آخر كتاب تأليفي هو "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب"، وأنا بصدد التحضير للطبعة الإنكليزية من هذا الكتاب بعد اختصاره وتطوير بعض المفاهيم والمقاربات. وآخر كتاب تحريري (مع أ. سلفاتوري وك. أبوس) هو "دليل أكسفورد لعِلم اجتماع الشرق الأوسط" وصدر بالإنكليزية. أمّا كتابي الذي بصدد كتابته، فهو حول نقد الليبراليين المكتفين بذاتهم، واقتراح مقاربات أكثر حوارية للمجتمع، وذلك بربط العلوم الاجتماعية بالفلسفة الأخلاقية والسياسية. سأكتبه بالإنكليزية أولاً، ومن ثم أترجمه إلى العربية مع استجلاب أمثلة أكثر من العالَم العربي.


■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟

- الرضى شيء نسبي، وهو بشكل عام مربوط بمدى شعور الباحث بجودة البحث، ومدى تأثيره في الجدل داخل الجماعة العِلمية وللجمهور عامة. هناك مقالات غير راضٍ عنها أشعر بأنني بحاجة إلى بحث أمتن ميدانياً، أو قراءة أوسع للأدبيات المكتوبة والاشتباك الفكري معها. أتمنى التوجّه صوب ما يسمّى "البحث البطيء" (slow research). أما حول الأثر الاجتماعي في أبحاثي، ففي نهاية العقد الأول من هذا القرن، شعرت بمرارة شديدة من أن أبحاثي وأنشطتي لتحسين الوضع الاقتصادي - الاجتماعي والمدني للّاجئين الفلسطينيين عموماً، وفي لبنان خصوصاً، قد باءت بالفشل. أذكر في عام 2010 كيف أثّر ذلك فيَّ نفسياً، حيث أصبحت دموعي تنهمر عندما أتحدّث عن التمييز العنصري المؤسساتي والمجتمعي ضدّ فلسطينيّي لبنان. قرّرت آنذاك تغيير موضوع بحثي، ودخلت في مجال جديد حول الإنتاج المعرفي العربي، الذي أخرجني من إشكالية القرب الشديد للباحث من مبحوثه، إلى توسيع الأفق باتجاه العالم العربي والعالم عموماً.

هناك من حيّد العدالة الاجتماعية لصالح سياسات الهوية

ومما ساعدني على ذلك، بدء الثورات العربية التي نشطتُ كثيراً في السنوات الأولى لها مُدافعاً عن هذه الثورات في وجه استبداد الأنظمة العربية، وفي وجه التحليلات والدراسات التي اعتبرت أن تناقضنا الأساسي هو مع الإمبريالية والاستعمار وتبقى موضوعة الاستبداد مسألة ثانوية. وتناولتُ آن ذاك قضايا هامة في التحوّل الديمقراطي مثل الليبرالية، العلمانية/ الدولة المدنية، التحولات الفكرية والسياسية للحركات الإسلامية واليسارية. هل هناك عدم رضى عن بعض الأفكار التي كتبتها حول هذه الثورات؟ الجواب بالتأكيد نعم. فنحن الباحثين لا نكتب فقط لوصف وأفهمة الواقع، ولكن أيضاً ننتصر لخيارات معيارية مربوطة بالمدافعة عن المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية. وتدخل هذه المعيارية بتوتر مع وصف الواقع.


■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- لقد درست خمس سنوات هندسة مدنية في "جامعة دمشق"، لإرضاء أهلي بشكل أساسي، فأنا أنتمي الى عائلة فلسطينية لاجئة كانت قد شقّت طريقها بصعوبة من خلال التعليم. لقد كنتُ آنذاك أول مهندس في عائلتي. وفي الوقت نفسه كنتُ أدرس عِلم الاجتماع. كنت أتمنى لو أنني لم أضيّع وقتي في الهندسة. فعلم الاجتماع كان بالنسبة إليّ علماً للتغيير الاجتماعي والسياسي الذي تحتاجه بلادي، إن كانت فلسطين أو سورية أو الوطن العربي من محيطه إلى خليجيه. كان بودّي أيضاً أن أربط باكراً أبحاثي في عِلم الاجتماع بالفلسفة الأخلاقية. لكنني أعتبر نفسي محظوظاً بأني فعلت ذلك وبقوة كجزء من برنامجي الانتخابي على رئاسة "الجمعية الدولية لعِلم الاجتماع". أنا اليوم مشغول جداً في التحضير لمحاضرتي الافتتاحية في مؤتمر الجمعية، الذي يُعقد كلّ أربع سنوات، وسيكون هذه السنة في ملبورن (أستراليا)، وفيها سأقوم بالتنظير لهذا الربط.


■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لقد تأثّرت العلوم الاجتماعية كثيراً بـ"براديغم العَلْمَنة" ليُفهم الدين على أنه مجالٌ اجتماعيٌّ منفصلٌ، وأنه في انحسار حتى التلاشي. أنا أنتمي إلى عِلم الاجتماع غير النفعي الذي يرفض أن يرى المجتمع متمايزاً في أقسامٍ منفصلةٍ، أحدها الدين. هناك منطق مشترك يربط بين مجالات الدين والثقافة والسياسة والاجتماعية والاقتصاد، (هذا المنطق يمكن أن يكون رؤيةً للعالم، أو شيئاً أكثر ماديةً، كالمصلحة الفردية، أو أكثر علائقيةً، كحبّ الإنسان للعطاء والتضامن مع الآخر) الذي يسمح بفهم مجتمعٍ معينٍ بكلّيته، تماماً كما فعل روّاد عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، منذ بداية القرن العشرين، كمارسيل موس وكارل بولاني. بسبب نهج التمايُز الفصلي هذا، هناك الكثير من سوء التفاهُم بين العلماني مقابل الديني، والديني والمجالات الأُخرى.

أعود لكتابات عزمي بشارة بوصفه أهم فيلسوف عربي اليوم

أنا لست مع الفصل بين الدين والدولة، ولكنْ مع المحافظة على مسافةٍ آمنةٍ ومناسبةٍ بينهما، بحيث لا تتهدّد المساواة بين المواطنين وحرياتهم الفردية والجماعاتية، وأنا مع حدٍّ أدنى من حيادية الدولة، بالنسبة إلى تعدّدية مفهوم الخير، الذي غالباً ما يستند إلى الأخلاق المستمدّة من مصادر مختلفةٍ، كالدين والتراث والعادات والتقاليد، ولكن أيضاً من الإنسانية، من خلال العولمة.


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 

- دعني أستحضر شخصيتين بدل الواحدة. هناك شخصية عربية أحبّها جداً حيث نشأت على فكره، وهو المفكّر الجزائري مالك بن نبي، الذي قابلته لبرهة عندما حضر إلى دمشق على ما أذكر في عام 1973، وكنت طفلاً. بن نبي أنتج فكراً حوارياً استطاع أن يعالج الاستقطاب الحادّ في وقته بين الإسلاميين والعلمانيّين، وخلق معجم مفردات يتجاوز المفردات الخاصة في كلّ اتجاه. طبعاً أنا اليوم أتعامل مع فكره بنقدية وأنتقد كيفية استخدامه ومدى صلاحية بعض أفكاره لواقعنا اليوم. ولكن نَفَسَهُ الحواري يبقى مُحَيَّناً ونحن بأمسّ الحاجة له اليوم.

لستُ مع فصل الدين عن الدولة، بل مع مسافة أمان بينهما 

أما الشخصية الثانية التي أودّ لقاءها، فهي بطلتي الفكرية حنا أرينت. يشبه مسار هذه الفيلسوفة الألمانية اليهودية، التي فرضت عليها النازية النفي إلى فرنسا، ومن ثم أميركا، مساري كلاجئ، وبالوقت نفسه أُعْجِبت كثيراً بكتاباتها حول اللاجئين الذين ليس لهم "حقّ التمتّع بالحقّ" (right to have a right). وقرأت بنهم فلسفتها السياسية في الديمقراطية والديكتاتورية وعنف الدولة الوطنية الحديثة. فهي عميقة فكرياً، وفي الوقت نفسه ناشطة سياسية كانت تكتب أسبوعياً في الصحافة الأميركية. لقد حذّرت أرنت من مشروع الكيان الصهيوني الذي اعتبرته أنه سيخلق صراعات من الجيران العرب لا حلّ لها. وربما لا شيء اليوم أصدق من نبوءة هذه الفيلسوفة.


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- الأصدقاء كثيرون في كلّ بلد عربي، فأنا محظوظ بالدعوات التي تلقّيتها في هذه البلدان. ولكن كانت هناك صداقة حميمية مع عالم الاجتماع الجزائري الراحل علي الكنز (1946 - 2020). كنت وقتها نهماً في قراءة كل ما يكتبه. وجاءت الصدفة أن يعيش في منفاه في مدينة نانت في فرنسا عندما كنت أسكن هناك. تعرّفت إليه وقت ذاك من قُرب وإلى زوجته الصديقة سوزان الفرا. كنا نتناقش طويلاً على موائد العشاء، وكنا نتفق حيناً ونختلف أحياناً أُخرى. فهو كجزائري قد حافظ على مقاربة ما بعد كولونيالية مُرَّة، كنت آن ذاك أكثر تفاؤلاً بإمكانية وجود عِلم اجتماع كوني. أما الكتاب أو الكتب التي أعود إليها، فهي لصديق آخر هو عزمي بشارة. فأنا أعتبره اليوم أهم فيلسوف عربي بتناوله قضايا مصيرية تمسُّ مجتمعنا العربي، من قضايا مُلحّة مثل الدين والتديّن والعلمانية، إلى الطائفية والثورات العربية والتحوّل الديمقراطي.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- قراءاتي اليوم تتعلّق بكتابي الذي أحضره حول نقد "الليبراليّين المكتفين بذاتهم" أو "اليسارية الثقافوية". كذلك أقرأ حول إشكالية "المرونة الجندرية" (Gender fluidity)، التي أصبحت على الموضة في حداثتنا المتأخّرة، وتظهر كأنها اختيارات فردية حرة بحتة، ومربوطة بفكرة إمكانية تحقيق اللذة المطلقة والمفصولة عن أي تفكر في الثقافة أو الأخلاق. تطرح المرونة الجندرية إشكالات لها تبعات هامة على البُنى الاجتماعية كالعائلة، وتبعات إن كانت ستدخل بتوتر أو حتى بتناقض مع مبادئ أُخرى لحقوق الإنسان. لذا، فأنا أقرأ اليوم لكُتّاب فرنسيِّين، منهم كتاب بعنوان "إشكالية التحول الجنسي" (Question trans) للفيلسوفة كلود حبيب، وكذلك حول تسليع العلاقات الحميمية من خلال كتاب لعالمة الاجتماع إيفا إلوز. وآخر كتاب قرأته هو لأوليفييه روا حول دور العولمة في تسطيح العالم، أي إلغاء فكرة الثقافة في تأثيرها بالمجتمع الوطني.


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- أنا شخص هواي الثقافي أقرب إلى الكلاسيكي، بمعنى أنني ما زلت أستمتع بالأغاني القديمة أكثر من الحديثة. فأنا أحبّ سماع أم كلثوم وفيروز عربياً، وأستمتع بسيمفونيات بتهوفن وبموسيقى الباروك لفيفالدي. كلاجئ تربّى في مخيّم، لم تكن الموسيقى إلّا سلعة فاخرة غير متاحة للتعلّم. لقد حاولت دفع أبنائي إلى تعلّم الموسيقى، ولكن يجب أن أعترف بفشلي بذلك. أملي الآن في ابني الصغير جود الذي بدأ بتعلم البيانو، لعلّه يستمرّ في ذلك.



بطاقة

أكاديمي فلسطيني من مواليد عام 1962، يعمل أستاذاً لعِلم الاجتماع في "الجامعة الأميركية" ببيروت، ومديراً لـ"مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية"، ورئيساً لـ"برنامج الدراسات الإسلامية" فيها. ترأس تحرير "المجلة العربية لعلم الاجتماع: إضافات" بين عامي 2017 و2022؛ و"الجمعية الدولية لعِلم الاجتماع" منذ 2018. وقبلها كان نائب رئيس وعضواً في مجلس أمناء "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية" (2012 - 2016). وهو أيضاً مؤسس ومدير "البوّابة الإلكترونية حول الأثر الاجتماعي للبحث العِلمي حول/ من العالَم العربي" (أثر). من مؤلّفاته: "البحث العربي ومجتمع المعرفة: نظرة نقدية جديدة" (مع ر. أرفانيتس/ 2015)؛ و"اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان" (مع آ. كندسون 2015)؛ و"علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب" (2021). انتُخب زميلاً - مدى الحياة - في "الأكاديمية البريطانية"، تقديراً لمساهمته في العلوم الإنسانية والاجتماعية. 

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون