- وجدي معوض يواجه انتقادات بسبب فشله في التعبير عن موقف حازم ضد الإبادة الصهيونية، مما يثير تساؤلات حول مسؤولية الفنانين في مواجهة القضايا الأخلاقية والإنسانية.
- حملات المقاطعة والاحتجاج ضد المسرحية تؤكد على دور الفن كوسيلة للتعبير عن الهوية والمقاومة، وترفض تبييض صورة الجريمة الصهيونية، مؤكدة على ضرورة الوعي والمسؤولية الأخلاقية للفنانين.
"وليمة عُرس عند سكّان الكهف"، كان يُمكن لهذه المسرحية المُقرَّر عرضُها في الثلاثين من الشهر الجاري على خشبة مسرح "مونو" في بيروت، للمُخرج اللبناني الكندي وجدي معوّض (1968)، أن تكون جزءاً من رسالة المسرح الحقيقية ودوره في بلد مأزوم كلُبنان، أو على الأقل أن يلتقط صاحبُها بحساسيّته الفنّية إشارات بيروت، التي تكاد تكون المدينة العربية الوحيدة التي لم تنقطع فيها تظاهُرات الاحتجاج ووقفات المُناصَرة لغزّة وأهلها، خلال نصف عام من حرب الإبادة المفتوحة، فضلاً عمّا يشهدُه الجنوب اللبناني من عُدوان إسرائيلي يَوميٍّ ضدّ أبناء وطنه. لكنّ المُخرج المُطبِّع اختار الجانب المُظلِم من التاريخ، اختار أن يجرَّ "ولائمه" إلى الكهف الصهيوني.
تجاوُز "العبوديّة"؟
في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كتَب معوّض مقالاً في "جريدة ليبراسيون" (الصحيفة الفرنسية التي لم تتورّع مُؤخَّراً عن نشر كاريكاتير عُنصري حقير يشمت بتجويع الفلسطينيّين، وبرَّرت الرسّامة "كوكو" ذلك بادّعاءات إسلاموفوبيّة)، أي بعد مضيّ شهر على العُدوان، عنوَنه بـ"الصراع بين حماس وإسرائيل: لن تحظى بكراهيّتنا"، استرجعَ فيه أجواء الكراهية التي أحاطت بطفولتِه إبّان الحرب الأهليّة اللبنانية (1975 - 1990)، وكيف "رقَص" عند إعلان اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، وكيف اعتبر "مجزرة صبرا وشاتيلا" جزاءً عادلاً للفلسطينيّين حينها، وردّاً على اغتيال بشير الجميّل (1982).
يُريد معوّض أن يتجاوز "عبوديّته" لتلك الأجواء، كما يكتب، وأن يُثبت أنه اليوم بات على النقيض معها، وأنّ خلاصَه المزعوم منها لم يأتِ إلّا بعد هِجرة ودُروس حياتيّة وتعلُّم طويل. لكن هل نجدُه، بعد هذا الإطناب الفارغ على ذاته، يجأَر بموقف شُجاع مُندِّد بالإبادة الصهيونية، وهي التمثيل الأبشع والرّاهن لما يتقوَّله عن الكراهية، وهل نجدُه "يمنع المُستنقع من الفيضان"؟، كما يُكرّر.
نصْفُ عام من الإبادة في غزّة لم تمس ضميره الإنسانوي
نُتابع المقال لنرى الرَّجُل ينتفض انتصاراً للسردية الغربية بتفرُّعاتها الليبرالية، التي تستطيع أن تبتذل موقفاً "أخلاقيّاً" وتدّعي أنها أيضاً ضدّ الإسلاموفوبيا أو كراهية السُّود والمثليّين كلّ هذا معاً، لكن مع حرصٍ شديد في المقام الأول، على أنّ الكراهية التي يجب أن نخشاها جميعاً ليست تلك التي تُوجِّه قاذفات الصواريخ "الذكيّة" إلى صدور ورؤوس الأطفال والنساء العُزّل في باحات المستشفيات بغزّة، بل هي "مُعاداة الساميّة"، ومُعادُو الساميّة برأيه ليسُوا الأوروبيّين، بعارِهم التاريخي المُتمثِّل في المحارق والغيتويات، بل "روح حماس التدميرية"، وبالأخصّ ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
إذاً تحقّق خَلاصُ معوّض من بشاعات الحرب الأهلية اللبنانية، بمجرّد أن رطَن بتعويذة "مجانين الحرب"، التي تُوزِّع المسؤولية على طرفين "مُتطرِّفَين" مُتساويين، لا بين مُستعمِر ومُستعمَر، ولا كلمة واحدة عن الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. وها هو صاحب الثلاثية المسرحية "نساء" (2011)، يتطهّر من آثام الكراهية في ذروة السقوط الأخلاقي للغرب بحكوماته جَمعاء يمينيّةً كانت أم يسارية، فكِلَا الفريقَين يتداول الأدوار الإمبريالية ضدّ شعوب العالَم، بما فيها شعوبُهم التي نراها تملأ الساحات، لا لأجل فلسطين في ذاتها فقط، بل لأنها وجدت فرصة للعودة إلى الحيِّز العام من خلال القضية الفلسطينية.
صفة لازمة
كلّ هذا لا يعني المُخرج المُطبِّع، ومدير مسرح "لا كولين" الوطني الفرنسي اليوم، حيث احتفت بعضُ الصحافة الثقافية العربية بالتجديد له الشهر الماضي، كما لم يَعنِه عام 2017 عندما قدّم عمله "الكلّ عصافير"، الذي حظي بدعم من سفارة الاحتلال الصهيوني في باريس، ومن "مسرح كاميري" في تل أبيب، حيث عُرضت المسرحية عام 2018، وشارك فيها ممثّلون إسرائيليون. بل إنّ انعدام الحساسيّة الإنسانية والفنّية تبدو صفةً لازمة لمعوّض، حين نعلم أنّ جُزءاً من ثلاثيّته المسرحية "نساء"، المُعنوَن بـ"أنتيغون"، قد شارك فيه مُغنّي الرُّوك الفرنسي بيرتران كانتا (1964)، الذي قتَل شريكتَه المُمثّلة المسرحية ماري ترنتينيان عام 2003، قبل أن يُحكَم بثماني سنوات سجن، وبهذا يكون معوّض مُتمرِّساً في "التطبيع" مع القتَلة وإعادة تأهيلهم وتقديمهم للرأي العام سواء أكانوا أشخاصاً أم كيانات استعمارية.
أهَّل فنّياً مُغنّي "الروك" بيرتران كانتا الذي قتَل شريكته
ومن المفارقات أيضاً، أنّ المُخرج كان قد وجّه رسالةً بالفرنسية في إحدى التظاهرات الفنّية عام 2020، وعلى أثر انفجار "مرفأ بيروت"، تحدّث فيها عن ضرورة أن يكون اللبنانيّون معاً، خاصة الجيل الجديد منهم، وأنّ هذا "الوجُود معاً" في عُرْف السلطة قد يكون جريمة أفدح وأخطر من القتل. في رسالته تلك، تساءل معوّض عن إمكانيّة الغضب وقوله، وهو الذي نسي العربية في المنفى، واستعصَت عليه حروفها الثقيلة، كما كتب، ونراه يُعبِّر عن مقته أولئك البرجوازيّين الذين يرطنون بلُغات غير لُغتهم الأمّ، فهل يُعقَل أن يكون صاحب تلك الرسالة "المؤثّرة" قد انقلب على ما كان يُنادي به قبل أربع سنوات فقط؟ أليس "الوجُود معاً" بعد أكثر من أربعين ألف شهيد ومفقود هو المطلوب اليوم قبل أيّ شيء آخر؟
وإذا كان قد أسِيَ على نفسه لنسيانه حروف العربية، فالأجدر ألّا يكون قد نسي ضميرَه الإنساني، وليتكلّم بعدها باللغة التي يُريد، شرط ألّا يتلعثم أمام الإبادة ومُرتكِبها الذي لا يُخفي نفسه. أيّ لُغة تتكلّم آني إرنو وإدغار موران وجان لوك ميلنشون، يا مُخرجَنا العالمي، ومئات آلاف المُتظاهرين الدّاعمين قضيةَ فلسطين في باريس والمُدن الفرنسيّة؟ وأيّ لُغة يتكلّم "أبطال" الإنزالات الجوّيّة العرب؟ هذه تفاصيل أمام فداحة المشهد، الحقّ نقول لك.
الجدير بالذِّكر أنّ بياناً، كان قد صدر في الثالث من نيسان/ إبريل الجاري، عن "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل" في لبنان، بعنوان "وجدي معوّض لن تُعرَض مسرحيّتُك في لبنان، لن تُبيّض صورة الجريمة الصهيونيّة!"، وممّا جاء فيه: "حتى لا يكون الفنّ بشكل عام، والمسرح بشكل خاص، شاهِدَي زُورٍ على التاريخ، ووفاءً لدماء كلِّ الشهداء، فإنّ حملة 'مقاطعة داعمي إسرائيل' في لبنان توجّهت إلى الجهات المعنيّة بإخبار مُباشر لإيقاف هذا العمل. وإذ نُناشد الفنّانين المشاركين بالمبادرة إلى وقفة ضمير والانسحاب من العمل، ندعو كلّ الفنّانين اللبنانيّين الأحرار إلى تحرُّك نضاليّ فنّي يُساهم في إيقاف المسرحية".
بدورها، أعلنت "جمعيّة السبيل"، عبر حسابها على فيسبوك، وفي خطوة مُثمَّنة، عن تعليق الحملة التمويلية من خلال العرض ما قبل الأوّل للمسرحية التي يُشارك فيها مجموعة فنّانين، هُم: فادي أبي سمرة، وبرناديت حديب، وعايدة صبرا، وعلي حرقوص، وجان ديستريم، وليال الغصين. قبل أن تُعلِن إدارة مسرح "مونو"، مساء أمس الأربعاء، "أسفَها" لإلغائها العرض، في بيان مُقتضَب، عِلماً أنّ المسرح البيروتي المذكور لم يُنظِّم ولو نشاطاً واحداً يستحضر فلسطين أو يُذكِّر بقضيتها طيلة الأشهر الستّة الماضية.