نحن لا نقرأ الكتابة، نحن نقرأ إعادة الكتابة. على مرّ السنين لعب المحرِّرون دوراً مهمّاً في كتابة النصوص، ومنذ بدأ التدوين، عَمل كتّاب الإمبراطور أو الملك على تحرير ما يقوله شفوياً إلى نصوص مكتوبة، وأضافوا إليها من لغتهم الخاصة ورؤيتهم. على سبيل المثال، اتسعت سلطة المحرّرين في القرن الثامن عشر في الهند، حيث صاروا يكتبون كتباً كاملة، وينسبونها للأمراء، حتى صار كلّ الأمراء الهنديون كتّاباً في ذلك العهد.
تدعم إعادة الكتابة النصوصَ وتقوّمها وتُغنيها مثلما فعل كتّاب من شعوب مختلفة مع "ألف ليلة وليلة"، الذي كُتب وحُرّر مرّات عدّة، حتى وصل إلى النضج الذي بين أيدينا الآن. ولكن في أحيان كثيرة تعمل إعادة الكتابة على خيانة النص الأصلي.
دائماً ما تتحكّم المؤسّسات الأيديولوجية والإعلامية في النص وسمعته. هذا ما تفعله، مثلاً، الإمبريالية الأميركية التي تدعم إعلامياً كتاباً على حساب كُتب أُخرى من نوعه، وتتجاهل أدب حقب وبلدان فقط لاختلافها معها فكرياً أو سياسياً. لذا لم يتعامل الغرب بجدية مع الأدب العربي مثلاً، أو حتى الأدب الروسي، باستثناء النصوص التي تدعم أفكار الغرب السياسية والثقافية، أي تدعم الهيمنة الغربية.
تحوّل الفلسطينيّون في المقهى إلى مجموعة من "المحافظين"
وهذا ما حدث مع نصوص هيرمان هيسه، الكاتب الألماني الحائز على "نوبل للأدب" عام 1946؛ فبينما كنتُ أقرأ ترجمةً جديدة لروايته "ذئب البراري"، صادرة عن "دار همنغواي" في بيروت، بترجمة مباشرة عن الألمانية أنجزها غسّان عبد الرحمن، وجدتُ أنّه يصف مشهداً إنسانيّاً من زاوية متضامنة أو حسّاسة على الأقل؛ حيث يجتمع في المقهى لاجئون فلسطينيون سُرقت أرضهم وسُرق وطنهم، وهذا ما أدخلني في شكّ حاد: كيف لم ينتبه أحد لدعم هيسه لفلسطين؟ وكيف يمرّ تفصيل كهذا دون أن تعرف به أجيال من القرّاء العرب؟
بحثت عن ترجمة أُخرى للرواية، فوجدت ترجمة أنجزها المترجم السوري أسامة منزلجي عن لغة وسيطة (الإنكليزية)، وقد صدرت عن "دار مسكيلياني" في تونس عام 2016. لا ذكر لفلسطين في هذه النسخة، في حين تحوّل الفلسطينيّون في المقهى إلى مجموعة من المحافظين، دون إشارة إلى جنسيتهم، وبحذف فقرات عديدة متتابعة، وإليكم ترجمة منزلجي:
"لعلّ روّاد هذا المكان، الذين أعرفهم جميعاً بالعين فحسب، كانوا من المحافظين المنتظمين، ويحتفظون في مساكنهم المحافظة بمذابحهم المنزلية الكئيبة المكرَّسة لأصنام القناعة الخجولة، ولعلّهم، أيضاً، أفراد متوحّدون، سكّيرون، مراعون، هادئون، زائغو الانتباه، ذوو مثل عليا مفلسة، ذئاب متوحّدة ومساكين مثلي. لم أكن متأكّداً. لعلّ الحنين إلى الوطن أو الإحباط، أو الحاجة إلى التغيير هي التي جرّتهم إلى هناك" (صفحة 47).
بينما نقرأ في نسخة المترجم غسّان عبد الرحمن التي ترجمها عن الألمانية: "ولكن، حتى هذا المكان كان هادئاً مملّاً لا يحوي شيئاً ممّا اعتاده، لا يوجد حشود، ولا أصوات الصراخ والضجيج، ولا يوجد موسيقى صاخبة، ولا حتى تصفيق أو هتاف، فقط عدد قليل من المواطنين الهادئين الجالسين على الطاولات الخشبية المكشوفة حيث لا يوجد فوقها لا رخام مصقول، ولا ألواح من الحديد الرقيق، ولا مظلّات ملوَّنة، أو أغطية نحاسية. وقبل أن يذهب الجميع جلست لأتناول مشروباً ساخناً ودافئاً في المساء، يبدو أنه نبيذ غامق معتّق وكثيف، وربما الناس القلائل المتواجدون هنا ليسوا عاديّين البتّة، أو على الأقلّ من خلال معرفتي النظرية بهم التي تيقّنت بالنظر بإمعان إليهم، هُم لاجئون حقيقيون "فلسطينيون"، ويحملون في مخيّلاتهم الكثير من الصراخ والمذابح والدمار المنزلي، السجود أمام أشجار الزيتون المشتعلة، البكاء على المكان الذي تهدّم ركنه، وتلك البلاد البعيدة التي أتوا منها خائفين حزينين مكتئبين، ربما هم الزملاء الوحيدون والثملون الحقيقيون لي هنا في الحانة، والمبتعدون عن مسار حياتهم المهنية والحقيقية ليأتوا إلى هنا متناسين ما هُم عليه، الناس السكارى المتأمّلون، والذين يتحدّثون بالمثل العليا والفلسفة القديمة والقيم الإنسانية البالية. الذئاب في البراري والشياطين المسكينة الهاربة من لعنة المؤمنين أيضاً قد يأتون إلى هنا، ربما عرفت هذا الآن.
كلُّ واحد من هؤلاء يحمل في داخله ما هو أكبر من بؤس ونسيان، منهم من كان يحمل حنيناً لوطنه المنكوب، ومنهم من كان يبكي الغربة والشوق للأحبّة، ومنهم من أخفى في صدره جرحاً غائراً لخيبة أمل كبيرة، ومنهم من كان بحاجة إلى بديل يملأ الجزء الفارغ من حياته اليومية الروتينية المقيتة، ومنهم من عاد بذكرياته إلى أيام الدراسة حيث التقي مع عشيقته هنا، ومنهم الموظّف المدني الذي ملّ الروتين اليومي العفن، وأتى إلى هنا ليهرب من كلّ هذه الرتابة، جميعهم كانوا مثلي تماماً يشبهونني بكلّ شيء، كانوا قليلي الكلام يشربون بنهم وهدوء، ويفضّلون الجلوس أمام المسرح الذي كان يرتفع نصف متر عن الأرض والفتيات يرقصن، والكل يشرب من لتر الألزاسي المعتق. هنا كنت قد قرّرت أن أبقى لمدّة ساعات، وأن أتحمّل الفوضى في العرض، ولكنّني شعرت أنّ الأمر وصل إلى منتهاه، وعندما رشفت الرشفة الكبيرة من الألزاسي، وانتابتني نوبة من الدوار تذكّرت أنّي لم أتناول شيئاً على الإطلاق منذ الصباح، سوى شطيرة على الإفطار" (صفحة 70).
هل فاتنا الانتباه لقرب هرمان هسه من فلسطين؟
كان عليَّ العودة إلى النسخة الإنكليزية - وهي نسخة دار Bantam Book - لأتأكّد من النص الوسيط الذي نُقلت منه نسخة "دار مسكيلياني"، وقد ظننتُ أنّ النسخة جرى تحريفُها بسبب أيديولوجي، لكنّي وجدت وصفاً واضحاً للفلسطينيّين، وإن كان المترجم الإنكليزي استعمل كلمة Philistines ذات المحمول السلبي وليس Palestinians. والتعويل كله بالطبع على الأصل الألماني لمعرفة الكلمة التي استعملها هيسه.
هل اعتمد المترجم العربي على ترجمة إنكليزية محرّفة، بالأحرى مُصهينة؟ ولنا أن نتخيل حجم الرقابة والتحريف الصهيونيين في عالم النشر الغربي على مدار القرن العشرين لحذف مواقف متضامنة مع فلسطين أو يُشتم بها منها موقف متضامن. لا نعتقد أن المترجم العربي تعمّد إخفاء الفلسطينيّين من الرواية، لكنه بلا شك يتحمل جزء من المسؤولية هو والناشر العربي، الذي نتوقع منه توضيحاً واستدراكاً في حال ما كان هناك خطأ في حق فلسطين وفي الحقيقة.
* كاتب من العراق